أحدثت تصريحات سعادة الشامي نائب رئيس مجلس الوزراء سجالا واسعا لدى الرأي العام اللبناني بإعلانه أن الدولة ومصرف لبنان المركزي بحكم المفلسين.
ورغم توضيحاته اللاحقة وما رافقها من توضيحات تصحيحية لرئاسة الحكومة والمركزي فإن خبراء اقتصاديين وجدوا أن ثمة رسالة تخشى السلطتان السياسية والنقدية من مصارحة اللبنانيين بها، ومفادها: نحن عاجزون كدولة ومركزي عن سداد كامل أموال المودعين المحتجزة في الجهاز المصرفي اللبناني.
تداعيات الموقف الرسمي
عمليا، يعد الانهيار التاريخي في لبنان أمرا واقعا منذ انفجرت الأزمة في خريف 2019، وبدأت المصارف التجارية وبإيعاز من تعاميم المركزي باتخاذ إجراءات غير قانونية آلت إلى احتجاز أموال المودعين.
وعليه، يراكم المودعون خسائر هائلة بقيمة أموالهم، بسبب القيود على السحوبات وتعددية أسعار الصرف في المصارف والتعاميم الصادرة من المركزي، وترافق ذلك مع هبوط مدوٍ ودراماتيكي لليرة، وبلغت أخيرا في السوق السوداء التي تتحكم بالقيمة الفعلية للعملة الوطنية 24 ألفا مقابل الدولار (سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات).
وكان رئيس لجنة لبنان للتفاوض مع صندوق النقد الدولي سعادة الشامي سبق أن أعلن في ديسمبر/كانون الأول 2021 خسائر الجهاز المصرفي بنحو 70 مليار دولار، إلا أن ما صرح به أخيرا وكمسؤول رسمي من موقعه الحساس داخليا ودوليا دفع للسؤال عن حقيقة الإفلاس في لبنان.
وصرح الشامي في مقابلة تلفزيونية أول أمس الأحد أن الدولة ومصرف لبنان المركزي مفلسان، وأن الخسائر ستوزع على الدولة والمركزي والمصارف التجارية والمودعين.
وبعد الردود الشعبية والرسمية -وتحديدا قول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إن تصريحات الشامي حول إفلاس لبنان تم اجتزاؤها، ثم نفي حاكم المركزي رياض سلامة إفلاس مصرف لبنان- عاد الشامي وأوضح أمس الاثنين أن "الدولة ومصرف لبنان لا يستطيعان المساعدة بشكل كبير لعدم توافر إمكانيات بالسيولة حتى يساهما بردم الخسائر".
ولعل العبارة الأهم في توضيح سلامة قوله إن "المركزي لا يزال يمارس دوره الموكل إليه بموجب القانون، وإن ما يتم تداوله حول إفلاس البنك غير صحيح".
ما حقيقة الإفلاس؟
من وجهة نظر الخبيرة والباحثة القانونية بالشأن المصرفي الدكتورة سابين الكيك فإن سعادة الشامي أخفق كثيرا في تصريحاته، مما يدل -برأيها- على تخبط كبير من موقعه الحساس، سواء لجهة إساءة استعمال التعابير القانونية -المالية والمصرفية- أو لجهة التناقضات بمضمون التصريحات.
فمثلا، يقول الشامي إن ثمة مساعي لتوزيع الخسائر على الجهات المعنية الأربع (الدولة والمركزي والمصارف والمودعون)، في حين تشير الكيك إلى أنه قانونيا لا توجد "جهات معنية"، بل أطراف عليها واجبات وأخرى لها حقوق.
وقالت إن "العلاقة بين الدائنين (المودعون) والمدينين (المصارف) لا تكون بالتساوي"، وتتساءل: كيف سيتم توزيع الخسائر مقابل التصريح بإفلاس طرفين هما الدولة والمركزي؟
وقانونيا -تشير الكيك للجزيرة نت- إلى أن الإفلاس كحالة قانونية له شروط، منها العجز والتعثر المالي وعدم القدرة على ممارسة النشاط الوظيفي الأساسي على أن تعلن قضائيا لا أن تقدر تقديرا.
أما في حالة الدول فهي لا تفلس بالمعنى الحرفي، بل تتعثر عن سداد ديونها السيادية، وهو ما ينطبق على حالة لبنان.
وللتذكير، فإن لبنان أعلن في مارس/آذار 2020 لأول مرة في تاريخه عن تخلفه عن تسديد إصداراته من "اليورو بوندز" وعدم دفع مستحقاته المقدرة بـ1.2 مليار دولار، وهي جزء من قيمة سندات دين بالعملات الأجنبية ويبلغ عددها نحو 27 إصدارا وتبلغ قيمتها الإجمالية أكثر من 31 مليار دولار، ويستحق دفع آخر سند في 2037.
وعليه، فإن لبنان يتعثر قانونيا عن تسديد ديونه السيادية بحسب الكيك، أما في حالة المركزي فتذكر الخبيرة أن ما يصفه بممارسة دوره الطبيعي فهو عمليا ممارسة صلاحيات خارج القانون في ظل غياب التدقيق المالي بحسابات المركزي.
وقالت إن البحث عن مكامن الإفلاس يكون بوضع المركزي محط المراقبة الفاعلة والجدية نظرا لعجزه، واستعماله التقنيات غير المشروعة لإخفاء الوقائع المالية، والنقص الحاد بالسيولة الأجنبية، وعدم تقديمه رقما رسميا حول ما بقي لديه من الاحتياط الإلزامي الذي أصبح حكما ما دون الـ10 مليار دولار.
الإفلاس والمساس بالمودعين
في منتصف فبراير/شباط 2022 أقرت الحكومة اللبنانية مشروع الموازنة، وبلغ عجزها 17%، فيما قد يصل إلى 29% مع سلفة الكهرباء وخطة معالجتها.
وفي المسار الزمني، يأتي سجال الإفلاس بعد احتدام المعركة القضائية ضد المصارف التجارية والمركزي مترافقة مع صراع سياسي حولها، وكان آخرها توالي الإجراءات القضائية المحلية بوتيرة متسارعة بحق المصارف والمصرفيين وحاكمية المركزي، وتوقيف رجا سلامة شقيق حاكم المركزي، بموازاة تحركات قضائية دولية استنادا إلى دعاوى رفعها مودعون وجمعيات ضد شخصيات ومصارف لبنانية.
ومن هنا، يعتبر الكاتب والباحث في الشأن الاقتصادي منير يونس أن استخدام تعبير الإفلاس ثم التراجع عنه بصيغ ملطفة دون أن تنفي مفاعيله حمل رسالة باتجاهين:
أن الدولة التي لا تفلس بالمعنى القانوني والدولي والتي استدانت الأموال من المركزي لا تستطيع بالمقابل المساهمة بتسديد أموال المودعين البالغة نحو 100 مليار دولار، والتي أدت لتقدير الفجوة في الجهاز المصرفي بـ70 مليار دولار.
أن الدولة حتى تندمج مجددا في الأسواق الدولية وتسدد ديونها السيادية تحتاج للمساعدة العاجلة من صندوق النقد الدولي.
تحمّل الخسارة
وقال يونس للجزيرة نت إن السلطات تتوجه مباشرة إلى المودعين عبر التلميح بوجوب قبولهم تحمل الخسارة المدوية كاملة، ويربط التوضيحات المتتالية بالخشية من ردود الفعل الشعبية على مسافة شهر من الانتخابات البرلمانية، وما يؤكد توجيه الرسالة للمودعين حصرا برأيه أن سلطات الدولة لا تتوجه إلى الموظفين لأنها تسدد رواتبهم بالليرة التي خسرت قيمتها، ولا تتوجه إلى الدائنين الخارجيين لأنها تعثرت أساسا في تسديد ديونهم.
فهل الدولة اللبنانية قادرة على تسديد نحو 100 مليار دولار للمودعين؟ يتساءل يونس مجيبا بالنفي، ومذكرا بأن الدولة لن تتمكن من الإسهام في ذلك إلا إذا لجأت إلى خيار البيع من أصولها، وهو موضع سجال سياسي كبير بين من يؤيد ومن يرفض تسييل أو بيع بعض أصول الدولة.
ويذكر يونس أنه حتى المصرف المركزي لا يفلس بالمعنى الحرفي، لأنه يملك الحل السحري بطبع العملة، ورغم خسائره وتعثره يستطيع طبع الليرة.
ويضيف الخبير أن الخلاف حول التدقيق الجنائي بحسابات المركزي هو ما يعيق عملية تحديد المسؤوليات بتبديد عشرات مليارات الدولارات دون معرفة وجهتها.
من جانبها، تعبر الكيك عن عدم ثقتها بكل الأرقام الواردة من السلطات النقدية والسياسية في لبنان، مذكرة بأن صندوق النقد الدولي طالب مرارا بالتدقيق المالي في حسابات المركزي من جهة، وبمؤسسة كهرباء لبنان من جهة أخرى، لكونهما صندوق لبنان الأسود الذي ضاعت فيه مليارات الدولارات.
أما الحل برأيها فلا يبدأ إلا بهيكلية مالية للمركزي، وتاليا إعادة هيكلة القطاع المصرفي بدل ترك القطاع لتصحيح نفسه عشوائيا حتى يتمكن من القيام بخدماته العادية، وأبرزها حفظ وتسديد أموال المودعين كاملة وبالعملة التي أودعوها بها.