كتبتها:حياة دوابشة
ماذا لو كنت غير قادر على الرؤية لدقيقة؟كيف ستسير؟أين ستسير؟هل كنت لتلوم الحياة؟لتلوم القدر؟أم كنت ستكتفي بقبول الواقع؟هل سترضى أم ستتصنع الرضى؟كيف ستكون أحلامك؟طموحاتك؟تخيل فقط.
بشوشة دائما، صامتة ووراء الصمت حكاية، لعلك أبصرتها في جامعة النجاح ولكنك لم تدرك أنها مختلفة، لعلك حتى اصطدمت بها ولم تعتذر كما لم يعتذر غيرك، لعلك آذيتها بسؤال وجه لها أكثر من مرة "ألا ترين أمامك؟".
أمل وفي عينيها كل الأمل، هي ليست مختلفة، يومها كأي يوم عادي ترتدي ملابسها، ترتب منديلها، فلا تتوقع أن هذا الترتيب من صنع تلك الأعين الباهتة، كفيفة لكن دقة ملامحها واهتمامها بالألوان والمظاهر تجعلك لا تصدق أن عينا لم تحرك تلك اليد.
"أحب اللون الزهري،إنه جميل جدا " ربما كلمة تدفع في داخلك رغبة للضحك، فكيف لكفيف أن يعرف الفرق ما بين زهري وما بين أبيض بل وما تصوره للألوان، ولكن أمل ابنة العشرين تقول "أعشق الألوان وأتصور لكل لون صورة في عقلي لا بل وأتصور كل شخص كأني أراه".
إنها لكلمات تثير في داخلك رغبة في البكاء، فكيف لا تشكر الله كل ساعة بل كل دقيقة على أن لم يحرمك نعمة البصر، أمل تشكره على أن لم يجعلها بصيرة وتكرر"لعل الله أراد لي خيرا فأطفأ النور من عيني ووهبني نوراً آخر في قلبي".
من محاضرة لأخرى تدخل واحدة بصمت وتخرج بصمت غريب، وعندما تسألها عن سر تلك النظرة تقول"حرام أن يبقى هذا الأستاذ رهين كلام على ورق، ليته يستلم منصبا حكوميا ربما لكانت فلسطين بألف خير" نعم لبلدها نصيب من اهتماماتها الكثيرة.
أمل تنوي التخصص في الأدب الانكليزي، وتقول أن معلمتها منال هي من شجعتها على ذلك هناك حيث كانت تدرس في مدرسة في مخيم بلاطة، وتروي لي وتخص أساتذة الحرم القديم بالقول وهم من تتعامل معهم كون دراستها تقبع في محاضراتهم "يحيروني، دائما ما يناقشون في مساقاتهم مواضيع يعجز عن تحليلها أبرع سياسي الجزيرة".
لا تواجه صعوبة في التعامل مع باقي الطلبة، تلفت الانتباه لها فورا والصمت الذي تلتزمه في المحاضرة لا يبعد العينين عنها تسكت لتسمع، ان تحركت حولها سألتك عما تفعله.
أمل لا تقبل مساعدة من أحد لكن ان ساعدتها تشكرك وإلا تساعد نفسها بنفسها، ولا تمسك بعصا توجهها في سيرها تعلل"لا حاجة لي بها لي أقدام وأيد أتحسس بها طريقي ولي أذنان تدلاني كأنهما عيناي"هي كذلك لا تفكر بنفسها ككفيفة، هذا ما تؤكده لي صديقتها العزيزة ايمان.
لم تكن هذه الصداقة من باب المصادفة، فإيمان تشارك أمل في ذلك النور القلبي، ودائما تراهما معا تضحكان وتتحدثان بلهفة وتتناقشان في مواضيع دراسية، إن عجزت أمل عن فهم شيء كانت إيمان عوناً كبيراً ولا تبخل أمل بالمثل.
في مبنى المشاغل في جامعة النجاح الوطنية حضن لعيني أمل وحضن لكل عين باهتة، حيث تعمد أمل الى أحدهم بطباعة المساق لها على برنامج word ثم تعطيه لإدارة مختبر الحاسوب الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة، فيطبعونه لها بلغة بريل، نقاط صغيرة تستمر معها الحياة الجامعية.
تخص مسعود أحد أعضاء الهيئة في المكتب بالذكر، وتقول أنه كان عوناً لها على مدار السنتين الدراسيتين وتصفه بالمرح، هو كأمل لا يبصر الحياة لكنه متفائل ككل هذا المجتمع من المكفوفين فهم يضحكون ويواجهون الحياة بابتسامة تثير بداخلك رغبة في مواجهة الأزمات بكل تجلد.
"هل أنا مختلفة؟" سؤال تعجبت منه أمل كثيراً فهي تقول "لدي قدرات أستعيض بها عن هذه الحاسة توفرها لي حواس أخرى كحاسة السمع"، أمل ممن لديهم قدرة رهيبة على تحليل الأمور ويعود ذلك إلى سمعها الحاد فتسمع أبعد مما نسمع نحن وتحلل بطريقة مغايرة تكمل قائلة"الله يأخذ شيئا ويعطي بدلا منه أشياء أخرى، لكن بني البشر لا يدركون ذلك".
ابنة المخيم تحفظ الأماكن بدقة متناهية، فان ذهبت معها لكفتيريا صباح الخير المحاذية للنجاح، ستدلك هي على المكان الذي اعتادت أن تشتري منه غدائها وان أخطأت وسلكت مدخلا مغايرا تخبرك فورا "ليس من هنا بل من ذاك المدخل"، حقا تشعر أنك أنت الكفيف أمام هذه الشابة الواعدة ولا تملك إلا أن تضحك وتضحكها معك.
تنهي يومها متأخرة، ليست كباقي الطلبة تستغل وقتها بالدراسة، وعلاماتها أكثر من علامات المبصرين توضح"أبدأ يومي كل أحد في حدود الساعة التاسعة وأنتهي في الثالثة، وتقلني دائما سيارة عندما أريد العودة لبيتي في المخيم هي نفسها من تأخذني صباحا".
في ذلك المخيم حيث البيوت المتزاحمة تعيش أمل عيشة طيبة كما تصفها ، يعاملها أهلها معاملة كأي طفلة عادية تتوسط عائلة من سبعة أفراد وتقول"مسؤوليتي في البيت كمسؤولية إخوتي لا أشعر بأني غريبة ويعاملونني بشكل عادي، هذه الفتاة القنوعة لديها فلسفة غريبة للحياة تجعلك تفكر بالأمور بشكل مغاير عما اعتدت عليه.
كفيفة ولكن ترى أكثر من مبصر، بعيدة عن الأشياء وفي بعدها كل القرب، هادئة في هدوئها مكامن قوة تحتاج لصقل، لا تعرف أتصف الفتاة بالكفيفة أم تصفها كصورة فريدة لحكاية ما تزال أمامها فصول كثيرة، لعل الحياة عوضتها بالرضى لعله ذاك الكنز من القناعة الذي لا يفنى، ولعله الايمان بأسمى تعريفاته.