قُتل قبل عدة أيام شاب من إحدى بلدات محافظة نابلس بالرصاص. ورغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن الأسباب والدوافع وغيرها من التفاصيل، خاصة أن الأجهزة المختصة لا تزال في ذروة التحقيقات حول كل التفاصيل المرتبطة بأسباب ودوافع اطلاق النار في تلك الحادثة والأطراف أو الأشخاص.. وغيرها من التفاصيل. إلا أن المعلومات المؤكدة حتى الآن أن الشاب المغدور لم يكن بأي حال من الأحوال طرفاً في الموضوع بمجمله، وإنما تصادف أن إطلاق النار حدث بالقرب من بيته، وشاءت الظروف أن تكون الرصاصة القاتلة في هذه الحادثة من نصيبه. خلال السنوات الأخيرة قُتل عشرات المواطنين من محافظة نابلس في ظروف وخلفيات وملابسات مختلفة، لكن القاسم المشترك بينها جميعاً هو الشعور الذي يتراكم يوماً بعد يوم لدى كل مواطن في هذه المحافظة وينطبق عليه المثل الشعبي القائل "ما حكّ جلدك مثل ظفرك". وبالمناسبة محافظة نابلس أخذتها كمثال هنا، وقد تكون مؤشر على ما يحدث في كل، أو معظم، محافظات الوطن.
حكاية هذا المثل الشعبي تكاد تكون معروفة للعامة، وتطبيقات هذه الحكاية في الوضع الحالي في محافظة نابلس تحديداً تكاد تكون معروفة للعامة أيضاً. أما لغير العامة، ولمن يحتلون مناصب المسئولية ومراكز صنع القرار فأعتقد أن هناك حاجة لبعض الشرح والتفسير. وملخص الحكاية هنا يقوم على معايشة المواطنين لفترة طويلة من الشعور بعدمالإستقرار. وعدم قدرة الجهات والهيئات المختصة على توفير الحد الأدنى منوالأمن والأمان لهم. ولعله الشعور الطبيعي في هذه الحالة أن يلجأ كل مواطن الى البحث عن السبل والوسائل التي توفر له شعوراً بالأمن الذي تعجز الجهات والهيئات الرسمية عن توفيره. وأقصد هنا اللجوء الى تعزيز الروابط والعلاقات المختلفة كالعشائرية من ناحية، و/أو البحث عن مظلات مختلفة أخرى للحمايةكالإنتماء الى حزب سياسي محدد أو جهاز أو مؤسسة أمنية، أو حتى شخص متنفذ وصاحب سلطة. أما الإتجاه الآخر فهو إمتلاك الوسائل والأدوات التي يَعتقد أنها توفر له الشعور بالأمن، وتحديداً إقتناء السلاح، أو على الأقل الإيحاء للآخرين بإمتلاكه كنوع من أنواع الترهيب.
حكاية إقتناء السلاح، أو الإيحاء بإقتنائه، لها هي الأخرى معنى مختلف وخاص في محافظة نابلس. كمواطن فلسطيني مقيم في مدينة رام الله، واتردد على زيارة عائلتي التي تقيم في محافظة نابلس بشكل اسبوعي فإنني أعتقد أنه أصبح للأسلحة النارية في الذاكرة الجماعية لسكان المحافظة معنى وطعم مميز، فهي تحولت الى الوسيلة الأبرز حالياً "لإشهار" كل المناسبات الإجتماعية بدءاً من النجاح في الروضة والمدرسة والجامعة، ومروراً بالخطبة والزواج وإنجاب الأطفال وما بينهما، وليس إنتهاءاً بالحج والعمرة والتحرر من الأسر والحصول على ترقية في الوظيفة والنجاح في الإنتخابات وتهنئة الأقارب والأصدقاء والجيران بأي من المناسبات أعلاه، والفرح بفوز الفريق الفلاني، أو الغضب من هزيمة الفريق الآخر.. وغيرها من التفاصيل الكثيرة التي يعرفها سكان المحافظة.
ليس من السهل أن نصل الى تحليل دقيق وشامل لكل الأسباب التي تسبب سيادة حالة من عدم الشعور بالأمن والأمان في أي مجتمع من المجتمعات، لأنه ينبغي البحث في حالتنا هذه في الإحتلال الإسرائيلي وسياساته، في الأوضاع الإقتصاديةوالإجتماعية والسياسية وغيرها، لكن هذا يحتاج الى جهد كبير ووقت طويل، والى أن نتمكن من إتمام البحث في ذلك فإنه من المفيد تسليط الضوء على عدد من المحاور التي أعتقد أن لها أهمية كبيرة في سياق البحث والتحليل وهي:
أولاً: القضاء، وهنا لا بد من بحث تفصيلي في ذلك، لكن المخرجات الواضحة تشير الى أن طبيعة إجراءات وطول فترة التقاضي، وربما عوامل أخرى تؤثر على مصداقية القضاء في الثقافة المجتمعية، وتشكل عاملاً من عوامل البحث عن حلول ومعالجات خارج إطار القانون. تكفي زيارة واحدة للمحاكم هناك للخروج بهذا الانطباع الذي يتعزز أكثر عند تكرار الزيارات والخوض في التفاصيل المختلفة.
ثانياً: القضاء العشائري، وهو أحد الحلول التي يلجأ لها بعض المواطنين، رغبة في توفير الوقت والجهد في إجراءات التقاضي. غير أن نظرة سريعة على واقع ودور القضاء العشائري، وخاصة في محافظة نابلس، تشير الى أن هناك عشرات الحالات، وأقصد حالات القتل، التي لم تجد لها حلولاً، وللأسف هي معرضة "للتفريخ" أحياناً، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة والتساؤلات، لن أطرحها هنا، لأن "المكتوب واضح من عنوانه".
ثالثاً: الأجهزة والمؤسسات الأمنية، وتعمدت أن أضع ترتيبها ثالثاً، بدل أولاً، حتى لا نعزز إعتقاد البعض بأنها هي وحدها من يتحمل المسئولية. ورغم أنها لا تتحمل وحدها المسئولية، لكن ذلك لا يضعها فوقالمسئولية في الكثير من التفاصيل، بل هي جزء منها.ولعل العنوان الأبرز لمسئوليتها يكمن في القول "إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم". هناك الكثير من الجهد، لكن هناك الكثير من الإخفاق في النتيجة النهائية. الكثير من الإجراءات تتخللها علامات إستفهام كثيرة. تجارب عشرات، وربما مئات أو آلاف المواطنين تشير الى أنهم لجأوا لهذه الأجهزة للشكوى فوجدوا أنفسهم في السجن والإعتقال، وكأن المثل الشعبي "ضربني وبكى وسبقني وإشتكى" صار شعاراً ومنهج عمل. هناك عشرات الأسئلة والتفاصيل لا تزال مطروحة للنقاش وتحتاج الى إجابات.
رابعا: هيئات الرقابة، سواء المستقلة وغير الحكومية و/أو شبه الحكومية والحكومية. جزء من هذه الهيئات متخصص أصلاً في متابعة الشكاوي والقضايا المختلفة، فضلاً عن أن كافة الأجهزة والمؤسسات الرسمية إستحدثت خلال السنوات الأخيرة وحدات متخصصة لإستقبال ومتابعة الشكاوي. لكن بعيداً عن التقارير والأرقام فإن الواقع الميداني كما هو، هذا إن لم نقل أنه في إنحدار وتردّي. وشكاوي المواطنين لمختلف الهيئات والمؤسسات لا تتعدى الورق الذي كُتبت عليه، وهذا أيضا يطرح جملة من الأسئلة والتساؤلات.
كتب أحد الأصدقاء قبل عدة أشهر "أن طلائع المنظمات الجماهيرية إستطاعت في سنوات الثمانينات من القرن الماضي التصدي وإجتثاث الكثير من الظواهر السلبية التي كانت متفشية كالمخدرات مثلا خلال عدة أشهر ، رغم أن كل ما كانت تمتلكه هذه المنظمات هو مجموعات من الشباب المتطوعين المسلحين بإرادة ورؤية سياسية واجتماعية واضحة ومحددة. أما اليوم فيوجد لدينا إمكانيات أكبر بكثير في مجال الأفراد والمعدات والأجهزة والهيئات والمؤسسات، ومع ذلك فإننا نشهد تفشي وإزدياد للكثير من المظاهر والظواهر السلبية".
خلاصة القول أن هناك شعور عام لدى المواطن الفلسطيني، وفي محافظة نابلس تحديداً، بعدم الإستقرار أو الشعور بالأمن والأمان على النفس والممتلكات، وهناك مظاهر عديدة تؤشر على هذا الأمر يعايشها المواطن يوميا، وفي الكثير من تفاصيل حياته، أما ما يمكن قوله عبر الإعلام حول الموضوع فهو مرتبط بإنتشار ظاهرة إطلاق النار، أما التفاصيل وإجابات أسئلة من مثل: مَن؟ متى؟ أين؟ كيف ولماذا؟ فهي لا زالت وستبقى مطروحة على كل الطاولات، وفي مقدمته وعلى رأسها طاولة سيادة الرئيس الفلسطيني حتى يحصل المواطن ليس فقط على الإجابة، وإنما على شعور حقيقي بالأمن والأمان.
نبيل دويكات
رام الله-28 تشرين أول 2014