أثار الكاتب السعودي نعيمان عثمان في كتابيه " بؤس الصحافة ومجد الصحفيين"، و"القبليّة، عجز الأكاديمي ومراوغة المثقف"، جملة من الأفكار التي تحتاج وقفة جادة، ومراجعة نقدية عميقة لدور الصحافة والصحفيين في البلدان العربية، والمثقفين وطبيعة العلاقة التي تربطهم بالسلطة من جهة والمجتمع من جهة ثانية.
يصعب على متابعي الساحة الإعلامية والصحفية إيجاد وصف دقيق لواقع الحالة الإعلامية، بما فيها من تنوع وتعدد يصل حد العشوائية في بعض الأحيان وعدم وضوح الرؤى وطبيعة المصالح والتحالفات التي تقف خلفها ، إن أسقطنا فرضية " العفوية والتلقائية" من حساباتنا.
في السابق كانت الدراسات تتحدث عن العلاقة المثالية بين الصحافة بصفتها سلطة الرقابة على أداء السلطات الثلاث، ووصلت هذه الجهود إلى عدد كبير من التوصيات التي لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقال دون تحديد الأليات الواقعية والمتاحة لذلك في ظل الواقع المعقد ويزداد تعقيدا مع مرور الزمن.
في واقع الأمر، إن الحالة الإعلامية العربية بشكل عام والفلسطينية التي أملك القدر الأكبر في الإطلاع عليها ومعايشتها، تعيش ضبابية في الخيوط الفاصلة بين " الصحفي" و السلطة، والسلطة هنا أصبحت لا تشمل السلطة السياسية فحسب بل ينضم إليها، عدة سلطات لها قدرا كبيرا من النفوذ والقدرة على التأثير: رأس المال والحديث عنه قد يوقعنا في فخ عدم المقدرة على الوصف والتعبير، يضاف له منظومة المؤسسات والمنظمات غير الحكومية وتعاظم دورها في فلسطين وخاصة في وسط المؤسسات الإعلامية وإعتمادها عليها من ناحية التمويل وتطوير قدراتها، وأخيرا سلطة المجتمع بمختلف تعقيداته القبلية، وتوجهاته الفكرية والحزبية والمصلحية.
شكلت هذه الضبابية بيئة معقدة ومراكز قوى لا يعلم أحد متى تتصالح أو تتصارع، أو على ماذا، ويكون الصحفي أداة هامة في الترويج ووضع قضايا تلك المراكز على الأجندة العامة، وخلق حالة من النقاش التي تسهم في جعلها على سلم الأولويات في إطارها التناظري، وسجل هذا الأسلوب عدة إنجازات كمساعدة فقير من خلال إحدى البرامج الإذاعية الصباحية أو تسليط الضوء على قضايا حقوقية ومطلبية، وخلق لعدد كبير من الصحفيين لمعانا ومجدا خاصا كان يمكن أن يكون علامة فارقة لصالح الإعلام الفلسطيني، إن ترافق مع مجد للصحافة الفلسطينية، ودورها التنموي والرقابي والمعرفي، وأسست لها وزنا وثقة في المجتمع الصحفي المحلي أو الإقليمي والدولي.
ولا يخفى على أحد الكيفية التي ساعدت فيها بعض الظروف السياسية أو الاقتصادية في خلق امبراطوريات لمؤسسات صحفية أو صحفيين، كالإنقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة وما رافقه من أهمية كبيرة لإبراز طبقة من المثقفين والصحفيين الداعمة لأرباب الصحافة الحزبية والإستقطابية، حتى بعض اولئك الذين عايشوا الإنقسام في الضفة وعملوا ليل نهار على نقد السلطة الوطنية الفلسطينية و هذا ينسحب على قطاع غزة، دون الإلتفات للحظة أنهم وإن كانوا عن غير قصد وفي إطار سعيهم لبناء مجدهم الصحفي، إنما يضحون في قيم الصحافة ويسهمون يوما بعد يوم في تمييع وإحباط الشارع الفلسطيني، هنا نحمل الصحفي مسؤولية إنسياقه لإخطاء السياسيين.
كما ينجر بعض الصحفيين وهم ينتقدون الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي إلى تمهيد كثير من مخططات العدو الإسرائيلي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يجري في مدينة القدس، وذهاب كثير من الصحفيين إلى القول بإمكانية تقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا، وهذا يمهد ويهيء الرأي العام مستقبلا لإستيعاب الأمر إن حصل، وهذا ينطبق على طبيعة المصطلحات المستخدمة بشكل عشوائي في وصف ما يجري في مدينة القدس والمخاطر التي تحيط بها.
أما فيما يتعلق بسلطة " مؤسسات المجتمع المدني" والمنظمات الدولية الداعمة لها، فيربطها بالمؤسسات الإعلامية والإعلاميين علاقتين الأولى مباشرة من خلال التمويل المباشر لإنشطتها وفعالياتها وتغطياتها الإعلامية، إضافة إلى إستهدافها بورش العمل التدريبية وبعض المؤتمرات، والثانية غير مباشرة تتعلق بأهمية إمؤسسات المجتمع المدني والأهلية الفلسطينية لوسائل الإعلام الفلسطينية في حملات " الضغط والمناصرة"، وعرض الأخبار و الحلقات التلفزيونية. ولا عيب في ذلك إن كان يأتي ضمن توازن بين الحفاظ على ديمومة المؤسسة الصحفية والرسالة الصحفية .
يضاف إلى كل ذلك دور رأس المال الفلسطيني وهو غني عن التعريف فيكفي أن نشاهد مقال لأحد أكبر رجال الإقتصاد في البلاد ينشر كمقال رئيسي بغض النظر عما يحتويه أو إن كان هناك مقالا آخر أكثر أهمية وأولوية.
يمكن فهم أن هناك تفاوتا في دافع كل صحفي أو مؤسسة في العمل بمجال الصحافة، فهناك من ينظر إلى العمل الصحفي على أنه وسيلة لكشف الحقائق وتحقيق أهداف فكرية سامية إضافة إلى العيش الكريم، وفي الوقت ذاته هناك من يتعامل مع هذا المجال كصناعة تمكنه من تحقيق الثروة المالية والنفوذ، وفي هذا الإطار يمكن المقاربة بين العقليتين العربية التي تجد في التحالف مع إحدى السلطات فرصة لتحقيق ذاتها في المنصب والمال من ناحية، والغربية التي تتفوق في رؤيتها وقيمها المهنية من ناحية أخرى للدخول في هذا المجال الذي يمنح فرصا متساوية لكل إتجاه.
في الحقيقة، إن إشكالية المقال لا تكمن في حرص الصحفي على صنع إسمه الإعلامي، وبعضهم نجح في ذلك من خلال معرفته الواسعة، أو عمق التحليل، أو المواد الصحفية المميزة، وآخرين نجحوا من خلال " الفهلوة" في إستثمار ما يوفره عقد " زواج المتعة" مع إحدى مراكز القوى أعلاه من إمتيازات وفرص، والساحة الفلسطينية مليئة من النموذجين.
لكن تنطلق فكرة المقال من ضرورة توضيح الخيوط الفاصلة بين الصحفي ودوره عن غيره من الأدوار الأكاديمية والسياسية والدينية والمجتمعية، ومن جهة ثانية السعي لخلق مجد للصحافة بالتوازي مع ما نبذله لخلق المجد الشخصي، ولن يحتاج الأمر سوى أن يقرر الصحفي مدى إيمانه وقدرته على القيام برسالته ودوره، يقول إدوارد سعيد: علينا الإختيار ما بين تمثيل الحقيقة بأقصى ما نستطيع، وبين سلبية السماح لراع من الرعاة أو سلطة من السلطات بتوجيهنا، وأمثال تلك الأرباب دائما ما تخذل " عُبّادها".