صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
شهد هذا الأسبوع أحداثًا متسارعة قاربت أن تحيل إسرائيل الدولة التي اعتزت بديموقراطيتها، بغضّ النّظر عن جوهر هذه الديموقراطية وماهيتها وادواتها وكيفيتها، في نادي دول الشرق الأوسط ، إلى جمهورية موز، وهو مصطلح يُطلق على تلكم الدول التي تعاني من تعثرات سياسية وفساد سياسي واقتصادي وعدم استقرار مجتمعي وتشظٍ يصيب المجتمع عاموديًا، أي في نخبه، وأفقيًا، أي في العامة.
الإصلاحات القضائية التي أراد حزب الليكود إدخالها بعد تبنيه مواقف وآراء فورم كاهيليت -عرّف المنتدى في نسخته الالكترونية بما يلي: المنتدى، هو معهد بحثي مستقل يعمل من القدس لتأمين مستقبل إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، ولتعزيز الديموقراطية التمثيلية، وتوسيع الحريات الفردية وتعميق مبادئ السوق الحرة-حيث يشارك رئيس قسم القانون في المنتدى ممثلًا عن نتنياهو في الحوارات الجارية في ديوان رئيس الدولة هرتسوغ بعد إعلانه ليلة الاثنين وقف العمل على إدخال التعديلات والإصلاحات القانونية والقضائية التي اعتُبرت تاج حملته الانتخابية، وقد جاء هذا الإعلان بعد سويعات من إعلان إقالته وزير الدفاع الذي طالبه رسميًا ليلة الأحد بوقف ما يسمى بالإصلاحات القضائية والقانونية، حيث سنَّ عددًا من القوانين التي أكدت مخاوف من تصدوا لهذه العملية، بعدئذٍ تم سن قانون إعادة درعي للحكومة وحماية نتنياهو من المساءلات القانونية أثناء الحكم، والمسارعة بسن قانون الهدايا والحصول على مساعدات مالية لمنتخبي الجمهور والذي يراه الكثيرون هدية لنتنياهو للحصول على مساعدات من مقربين للمضي في تمويل محاكمته. نتنياهو في صدارة الحكم منذ عام 1996 مع فترات متقطعة وقد نجح وبقوة في الدخول إلى وعي العامة من الإسرائيليين خاصة الشرقيين منهم والمنتمين إلى تيار اليمين الديني والسياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال مجموعة من الخبراء الإعلاميين الذين أوصوه بوصم من يعارضه بأنه يساري، حيث استحالت كلمة يساري في القاموس الإسرائيلي منذ عام 2013 إلى سبة وصلت مع انتخابات العام الفائت إلى درجة التخوين، والتي من خلالها نجح في إعادة رص صفوف اليمين بكل مشاربه بعد أن قدّم تنازلات كبيرة طالت كافة شؤون الواقعين السياسي- القانوني والمجتمعي- الاقتصادي.
فوجئ نتنياهو ومن معه من اليمين بحجم المظاهرات المناهضة لمشروعه ووصم المشروع بالانقلاب على النظام وعلى الديموقراطية من جهة، ووصم نتنياهو بالديكتاتور من جهة أخرى، واستحالت المُظاهرات اليومية إلى خبز الإعلام والسياسة الإسرائيلية واليهودية في العالم، خاصة يهود الولايات المتحدة الحامي والمنافح عن حكومات إسرائيل، والمالك للوبيات ضاغطة داخل مؤسسات الحكم الأمريكية، وكانت قاسمة الظهر بإعلان نتنياهو عن إقالته لوزير الدفاع الذي حذّر من تداعيات هذا السُعار على جهاز القضاء عمومًا والمحكمة العليًا والصيرورة التشريعية وجدل العلاقة بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية حيث تبنى نتنياهو شخصيًا ومعه وزير القضاء ياريف ليفين توصيات وطروحات مجموعة منتدى كاهيليت اليميني الجمهوراني المتشدد، ولم يرعوِ نتنياهو للتحذيرات الصادرة عن منظومات بأكملها إلى أن جاءت الضربة القوية من داخل الليكود من طرف وزير الدفاع الذي طالب نتنياهو بوقف فوري لما يسمى الإصلاحات في الجهاز القضائي لتأثيراته المُباشرة على الجيش وأجهزة الأمن المختلفة.
خطاب نتنياهو
بعيدًا عن المزاعم التي يدّعيها الإعلاميون المناهضون لليمين ولنتنياهو من أنه مُتأثر بالمطلق من زوجته وولده يائير وأنهما من يديران الحالة السياسية، فنتنياهو أثبت انه سياسي محنك وثعلب السياسة الإسرائيلية بعد أن نجح في الاستحواذ على اليمين الإسرائيلي، وفي المقابل عاش نتنياهو نرجسية سياسية خاصة بسبب سيطرته الطويلة على اليمين الإسرائيلي، وهو ما دفعه لتغليب مصالحه الشخصية الضيقة والحزبية أحيانًا على المصالح الوطنية، بل واستعمال سوائب اليمين لتنفيذ مآربه الشخصية والسياسية الضيقة على غرار خطابه الأخير في مدح جماعة “لا فيميليا” المتطرفة و “زو ارتسنو” دون ذكرهما مباشرةً.
رغم الفض
ائح التي تلاحقه، لا يزال يتصدر الحزب واليمين ليعيش حالة من نشوة القوة والنفوذ، بل ووصل الأمر به أن قارن نفسه مع كبار زعماء العالم أمثال بوتين وأنجيلا مركيل، وأكثر من مرة ضرب بعرض الحائط قرارات دولية بل ووثائق دولية وقّع عليها كما هو الحال عام 2018 عندما وقّع اتفاقية رسمية مع مفوضية اللاجئين في قضية ما عرف بالمتسللين الذين معظمهم من الأفارقة حيث اتفق على توطين 16500 منهم في دول أوروبية تشرف على تلك المفوضية مقابل منح عدد مماثل في إسرائيل حق الإقامة، لينقضها بعد أقل من يوم على توقيعه نتيجة لضغوطات قيلت أنها من اليمين ومن عائلته. خطاب نتنياهو الأخير والذي فيه أكد على وقفه المؤقت للإصلاحات للشروع بمفاوضات تحت قبة ديوان رئيس الدولة، جاء عمليًا نتيجة لضغط من داخل الليكود يحدث لأول مرة بهذا الزخم، ونتيجة لتهديدات مبطنة من النخب العسكرية والأمنية ونتيجة لثوران الشارع على إقالته لوزير الدفاع الذي قدم خطابًا وطنيًا- أخلاقيًا قدّم فيه مصلحة الدولة والجيش على الحزب والمصالح الضيقة، وكانت الإقالة الشعرة التي قسمت ظهر البعير ليخرج مئات الآلاف ضد هذا القرار بل وذهبت نخب أمنية وعسكرية وسياسية إلى اتهامه بالخيانة، وقد أدرك نتنياهو أنه في مأزق كبير بين أن يستمر في مسيرة الانقضاض على جهاز القضاء وانتهاء مسيرته السياسية واندلاع حرب أهلية يمكن ان تدفع نحو خراب المعبد، أي الدولة وحدوث نكبة إسرائيلية داخلية.
خطاب نتنياهو كان مقارنة بخطاب جالنت يشي أن الرجل وقع فريسة لليمين الديني الصهيوني الذي هدد بالانسحاب من الحكومة، وكان تأجيل الخطاب مرتين بيانًا إلى حالتي الارتهان والابتزاز السياسي الذي يتعرض له من طرف اليمين الديني الصهيوني، ولعل مسارعة بن غفير الإعلان عن تشكيل حرس وطني زاعمًا أنه تم الاتفاق عليه مع نتنياهو في جوهره، صفقة تمت بينهما لثنيه عن الاستقالة والبقاء في الحكومة التي باتت تتهددها الكثير من العراقيل السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
نتنياهو اليوم أضعف بكثير من ذي قبل، فقد أدرك تمامًا أنه ما عاد بإمكانه السيطرة المطلقة على الحزب، وحالة التململ التي تعتور الليكود اليوم باتت واضحة وصار الحديث عنها محط تحليلات سياسية، بل ذهب بعض أعضاء الحزب لاتهامه بأنه وليفين حطما الحزب نتيجة تعنتهما، وأن الحزب دخل مرحلة ضمور شعبي بعد اليوم التاريخي الذي هزَّ البلاد بسبب إقالته لوزير الدفاع، علمًا أن الرجل لا يملك قوة شعبية كافية داخل مؤسسات الحزب على المستوى الشعبي أي داخل مكونات اليمين الشعبية التي تعتبر الحاضنة للحزب.
من الصعوبة بمكان التنبؤ بانتهاء عصر نتنياهو، وإن كانت غيوم السياسة الإسرائيلية بدأت بالتلبد وهي من دورات الحيوات السياسية للأحزاب في إسرائيل، ونهايته السياسية قد بدأت فعلًا خاصة مع ظهور علامات تشي بذلك سياسيًا ودوليًا وإقليميًا، حتى الاتفاق والسلام الإبراهيمي الذي نجح بتحقيقه بفضل الضغوطات الأمريكية، بات على كف عفريت.
يبدو أن الأفق السياسي لليمين الإسرائيلي عمومًا ولحزب الليكود بات تتلبده غيوم الانشقاقات الداخلية وهو ما سيؤثر على المستقبل السياسي له، وتاريخيًا تعرض الليكود لهزة سياسية أفقدته الحكومة ووصل حدًا أدنى من النواب لا يتجاوز الـ 12 نائبًا. كما ورث نتنياهو من شارون حزبًا مهلهلًا، يبدو أن نتنياهو سيورث من سيأتي بعده حزبًا مماثلًا. تلك من سمات الواقع السياسي الحزبي الإسرائيلي ودوراته السياسية.
المفكر والباحث صالح لطفي