للكاتب : سعيد ذياب
في حياتنا نحن الفلسطينيون عالمٌ لا يشبه عالم البشر، ولا ينتمي لأبجديّته بل ولا يُسلم بحقائقه الثابتة، هنا عالمٌ موازي لا يؤرخ بالسنين بل بالنكبات، ولا يتناسلُ بالحياة بل بالموت، ولا ينتشي للفرح بل لكفٍّ قد انبرَت تناطحَ ألفَ مخرز، هنا بعض المسافات لا تقيسها الأذرعُ والأمتار، ولا تستلقي على ترف خرائط الجغرافيا، ولا تُذعِن طواعيةً لحيَل السياسة، فها هنا إحداثياتٌ ترسمها حُمرةُ الدم على خطوطِ طول النزف الممتد وبعرض الأحلام الموغلة في الانكسار، في وطنٍ أردناه دولةً وعَلَم، فإذا هو معازل كبيرة لجيشٍ من الرايات تتصارع على بُعدِ حرية.
يقول مريد البرغوثي في سرديّته: "ولدتُ هنا ولدتُ هناك" من أقصى جرائم الاحتلال تشويه المسافة في حياة الفرد، كلما قتلَ الجنودُ إنساناً، اختلّت المسافة المعهودة بين لحظة الميلاد ولحظة الموت، يطاردُ الاحتلال رجلاً واحداً في الجبال، فيجعل المسافة بين نُعاسه ومخدته تقاس بعواء ذئب ،جندي الحاجز يصادر أوراقي لأني لم أُعجبه لأمرٍ ما، فتصبح المسافة بيني وبين هويتي هي المسافة بين غضبه ورضاه، يقف جندي الاحتلال على بقعةٍ يُصادرها من الأرض ويسميها هنا، فلا يبقى لي أنا صاحبها المنفيُّ في البلاد البعيدة إلا أن أُسمّيها هناك ".
انتهى الاقتباسُ ولم ينتهي احتباسُ المسافة فقد ظلّت موسومة بختمِ بلفور منذ أكثر من مئةِ عام، تتعتّقُ الأشياء مع الزمنِ وتَبلى ،أما شؤمُ هذا الوعد يظلُّ نَدياً كأنما الآن دُبِغ ، مُشَّوِهاً مساحة الجمال كلها لفلسطين الأرض والإنسان.
كان للطيبين في أرضهم حياةٌ من وداعتها لم يتعلَّموا فيها حساب المسافة ولا تعقيدات المصالح، كانوا في بيدَرِهم المُبتهج بفزعة الحصاد، وللسامر المثقل بأهاييج الليالي مثل امتلاء السنابل، كتاتيبهم المُشر عة كما قلوبهم لكل خير، صباياهم المُرتسماتِ خجلاً على أطراف الغدير، مقدار سعادتهم هي مثل مسافة ارتسام الندى على وهج ابتسامة، تلك التي قطفها الغُرباءُ الجدد بمناجل حقدِهم، فاستوطن محلّها الأسى كلما حلَّ سوادهم على بعض الأرض، صاروا يُتقنونَ الحساب من إحصاء القتلى وتَعدد المقابر، ويقيسونَ المسافة بين المهجَرِ والمهجَر، ويستكشفون للموتِ أصنافاً مُعلّبَةً من العذاب، أصبح لليُتمِ معنىً آخر غير فقد الأب أو الأم، هو في فداحتِه يعني خسارة الوطن، وهو إذ ذاك فإنه أشدُّ وأقسى، إذ يتعدى الفرد ليصبحَ لازمةً للجيل الذي سيُوَرّثه للأجيال، هو العيشُ محاطاً بكل فاجعة، ومتزنراً بأحمال الغربة، مقصيّاً هناك على بُعد حرية.
في فلسطين هنا لا تكتمل الحكايات إلا برصاص بندقية، كما لا تبدأُ إلا بها، وبين مسارِ البداياتِ وخواتيمها قصصٌ بلا انقضاء ،لشعبٍ قد اغتربَ في فضاءِ الأمل، لعائلاتٍ لم تجتمع مرةً في مكانٍ إلا في خانة الاسم لبطاقات هويةٍ فسيفسائية الجنسية، لشملٍ قد انقطعَ رجاءُ لمّه للأبد، بعد تفرُّق طالبيه على قبور المنافي، وربما ظلّ خيالاً يُداعبُ الأحياءَ منهم في شتاتِهمُ الطويل، وهم يَرقُبونه من شُرُفاتِ أرواحهم الظمأى لرشفةِ لقاءٍ يكون ولو بعدَ حين، قبل نزعةِ النفَسِ الأخير، هنا حواجزٌ قد انتصبت كالمقاصل تقطعُ الطرقات وتجعلُ أمنيةَ فلاحة القمر، أشبهُ بتمني السفر من مدينةٍ لأخرى دون التوقف بواحدٍ منها أو اثنين، قد يسمحُ مراهقوه المعتمرون خوذةً يدنوها دِستةٌ من سلاحٍ وعتاد لك المرور، وربما يطردون ملل الحراسة الطويل بالتلهي بقطارِ المركبات المتوقفة في انتظار ايماءة من أحدهم كي تسير، وهنا اعراس يحمل اصحابها على الاكتاف ، ويزفون أفقياً فوق سيلٍ من الهتافات ونثر من الورود ، محاطون بالف دعوةٍ وشهقةٍ وزغرودة ، وهنا انامل غضةٌ كالعجين لكنها انقبضت على بارودة اضحت مثل الرماح تعرف وجهتها ، وتحفظ الطريق الذي له تطيب المصارع ، فلا بقاء لمن اراد القدس هيكلاً قادماً من وحي خرافة ، وهنا جيل لم يعرف من السفر إلا أنه حُلمٌ مشتهى، حُظوظهم منه لا تتجاوز حدود التصفُّح ومتابعة برامج الترفيه التي تتقافز بين البلدان، فالفلسطينيُّ يُولدُ ويَعيشُ ويموت دون امتلاك وثيقةِ سفر، فهذا من زوائد الحاجات، لا يعني من كانت إقامته على بُعد حرية.
وعلى بُعد قيدٍ من على بُعد حرية، تتكوّمُ السنوات ثقيلةً على كواهلِ أرواحٍ. أعَيَت أجسادها رطوبة الجدران ، وتغلغلت في خلاياها لعنة المكان المُوغل في سفك بقية الفرح ، والمُتلذذِ في سحل أي أملٍ بالخلاص، فهنا جحيم السجون المُستعرَة تقتاتُ من أعمار أُناسٍ أعمَلوا معاولهم في صخورِ اليأسِ العنيد، كي يُهدوا شعبهم عبوراً آمناً نحو ضفة الحرية، فابتلعتْ أحلامهم الكبيرة شراهةُ الزنازين المُشرعة على تيه ينتظرُ على عتباتها قهرُ مؤبدٍ يعصرُ الحياة حتى آخر رمق، هو ذات التيه الذي يأخذُ العمر فتيّاً عند تفَتُّحه على نضارة الشباب ليُخَلِّيهِ بعد سنين مجففا من دفق الدماء الثائرة ويتركه نهشاً لانياب الزمن .
هنا المفرداتُ لا ترتديها الحروف، لتبقى القصص أنيس أبطالها في توحُّدهم مع القيدِ والحديدِ والجدار، في تمرُّدهم الصامت على صَخب الجرح الذي يأبى التئام، في تعشُّقهم لخيطِ شمسٍ قد يتسللُ خفيةً من بين الأشياك العابسة فوق الأسوار، في تلعثم القلب حين يَلثغ متأخراً بكرَ أحاسيسه إذا ما فاجأهُ التفاتةُ النبضِ ذاتُ قَدَر، في نومٍ تتواعدُ فيه الأحلام مع صدورٍ هدَّتها زفراتُ الغياب، في وجوهٍ تتأملُ المرآة بتعجبٍ حين يتبدّى لها شبحُ ملامحٍ شاخت فيها ابتسامتُها من التعب وظلَّت تدَّخرُ بعض يفاعها لترتديهِ يوماً على بُعد حرية.
وفي السجونِ أُناسٌ قد عَقدوا صلحاً مع الزمن، يأخذُ منهم ربيعَ تورُّدهم عن آخره، ويعطيهم سلوى الالتحامِ بغربة الأرض، ورقَّة الإحساس بوجع الوطن، ومناجاة الليل حين يُطبقُ على ديارٍ كان للأجداد فيها يوماً فضىً من الذكرياتِ وأطلالُ شَجَن، هنا تتماثلُ الأحاديث في تصافُحها اليومي تسريةً وفضفضةً ومداعبةً ومشاكسةً وتهنئةً بزيارةِ أهلٍ أو تعزيةً وجبرَ خاطر.
هنا الخطواتُ يحسبُها صانعُ المكانِ، بدقة من يلقيها مشدودةً إلى حبلٍ لا تتعداه في حيّزها المحشور بين الجدارِ والجدار، حتى إذا انفلتت في يومٍ ظلّ أثره في وعي المعطوب يسحبها إلى رسن، هنا تتكثَّفُ مساحةُ الافراح وتتواضعُ خطوفها حدَّ ملامسة التراب، لتصير مجسَّدةً في تفاصيلَ من فرطِ بساطتها هي كل خيارات أُناسِ هذا المكان، فيومُ زيارةِ الأهل لأحدهم عيدٌ تتهيأه الحواس، لتحفظ وجوه زائريهم وتعُدَّ أنفاسهم من خلف الزجاج، فإن سُمح بإدخال كتابٍ أو ملابس أو بضعِ صور، فقد حظيَ بالسّعدِ لأيام، ومن نزف بالمداد كتاباً أو روايةً أو بضعةَ نصوصٍ فقد أودعها دون شكٍّ جزءًا من روحه، فإن تحررت وتلقَّفتها عيونُ القُرّاءِ واحتفى لها وجدانهم، فقد تاقَ قلبه يعانقهم على بساط السطور القادمة من على بُعد حرية.
وللمشاعر هنا فيوض تتجلى مع اصطباحات القدر، فترى لها أجنحةً تُحلّقُ إن تحرّش بها همسُ مودة، أو حمل لها الاسير زورقاً ورديّ الشراع، كي يُهديها سكنَ الشواطئ الهانئة في مرافئ الغرام، فترى قلوباً قد انعقد لها حبلُ الوداد من زمنِ ما قبل القيد، فلما أظلَّ زمانه جعلت منه سبباً آخر كي تتقن فيه فن تطريز الحب بخيوط من الوفاء ، فما القيدُ في دربِ العاشقينَ سوى عهدٌ يُري الدنيا فيه المآثر تستعلي بفلسطينيَّتها فوق دون الأنا وترفع حبها بالصبر يشرقُ من فوق ميدان السحب.
وإن تعجب فالعجب هنا من أكف قد امتدت من خلف الأسوار، تمسحُ عن الجباهِ ما عَلَقَ بها في وَعثاءِ المؤبد، وتمسد النبض غزلاً من نورٍ يتدثّرُ به المنفيّونَ في وحشةِ العمرِ الطويل، يستحيل السجنُ فيها فرصةً أخرى للولادة، والقيدُ إلى مهرٍ من شغفٍ ورضا، والبعدُ لميدانِ عشقٍ وتضحية وتغدو الأماني صلْواتٌ تُرتلها النفوسُ في خشوعِ الواثقين، ويُعزفها اليقين على صفحةِ الأيامِ ترانيمَ تتجمّلُ بها الأفئدة وتأتلق في تحدي المستحيل، فما هي إلا على وصول على بُعد حرية.
وبعد : ففي فلسطين وحدها ينبلج النصر من قعر الهزائم ، وتتأسطر البطولة بمقلاع وحجر وعناد ، ويكتب الراحلون وصاياهم بالدم على مساحة وطن ، كأنهم يوقظون كل وجدان ويهدمون كل عائق ، ويزرعون الارض زيتوناً وقمحاً وقنابل ، وينهضوننا كي نعيش العمر حرية ولا نبقى على بعدها أبد الدهر ، يقول المثقف الجميل عيسى قراقع : "بداية الاستسلام والتراجع دائما هو الخوف، تقرير المصير ولادة صعبة وحاسمة لخلق الكينونة وحماية الهوية، هكذا تولد الشعوب وتؤسس الحضارات وهكذا يكون للتضحيات معنى وصوت وثقافة…. هناك مسافة باقية لم نصلها بعد ، هناك وقت حتى نجمع عظامنا وكتب الماضي في القادم من ايامنا ، لا زلنا نموت امام الجدران والاسلاك الشائكة ، لا زلنا نموت في السجن ، لا وقت للاحتفال او الاستعراض او الاستعجال في انهاء الرواية ووضع الخاتمة " .