كتب د.حسن ايوب
قامت الدنيا، وما لبثت أن قعدت كالمعتاد، عندما أطلق وزير المالية الإسرائيلي "بتسلائيل سموتريتش" تصريحاته حول عدم وجود الفلسطينيين في شهر اذار الماضي. وقد اختار هذا المهاجر البولندي أن يعرض على منصة خطابه خارطة "إسرائيل" وهي تشمل كل فلسطين والمملكة الأردنية الهاشمية، في ربط بليغ بين الجغرافيا، والسياسة والادعاءات التوراتية.
لم تحدث ذات الجلبة عندما عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أقل من أسبوعين خارطة "إسرائيل" أثناء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأظهرت الخارطة كل فلسطين باللون الأزرق على أنها "إسرائيل"؛ هكذا كانت في العام 1948، وهكذا هي الان حسب الخارطة. خارطة نتنياهو تشكل سابقة أخطر بمرات من خارطة سموتريتش؛ أولا لأنها بالذات صفعة على وجه المنظمة الأممية التي منحت "إسرائيل" شهادة مولدها ولا تعترف باحتلالها واستعمارها الاستيطاني في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وثانيا لأنه ربطها بما وصفه بميلاد شرق أوسط جديد، لا مكان فيه للفلسطينيين كشعب وكحقوق وطنية. وبطبيعة الحال بلا دولة فلسطينية. وهذه صفعة ثانية على وجه كل المراهنين على مشروع حل الدولتين، بما فيهم المملكة العربية السعودية إن هي أصرت على ذلك كشرط لاستكمال التطبيع مع "اسرائيل" فما الذي دفع بنتنياهو ليصل إلى هذا القدر من الإحساس بالقوة والوقاحة؟
إنه التوقيت. فإذا ما تحققت تلك الأنباء عن اتفاق أمريكي-سعودي- إسرائيلي للتوقيع على اتفاق للتطبيع بين الأخيرتين، فإن ذلك سيكون بلا شك انعطاف كبير وغير مسبوق في تاريخ المنطقة، الأمر الذي منح نتنياهو ذلك الإحساس بالقوة والقرب من الانتصار التاريخي على الفلسطينيين ووضع "إسرائيل" في قلب المنطقة العربية رغما عنهم وبغض النظر عن موقفهم. فقد حلت بالإقليم متغيرات متلاحقة، جعلت من مسألة التطبيع السعودي-الإسرائيلي "أقرب من أي وقت مضى" حسب تعبير ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. اخر، وربما أهم، هذه المتغيرات هو المشروع الأمريكي الذي تم الإعلان عنه من الهند للممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبيIMEC، الذي سيكون فيه لإسرائيل دور محوري. بالنسبة لإدارة بايدن فإن هذا المشروع هو حاصل الجمع الجيوسياسي والاستراتيجي لعقيدة الرئيس الأسبق باراك أوباما والتي سميت “المحور الاسيوي" The Asian Pivot، وبين صفقة القرن التي تبناها ونفذها الرئيس السابق دونالد ترامب. فالتطبيع السعودي-الإسرائيلي هو شأن أمريكيفي المقام الأول ، وتعبير "صفقة" الذي يصفه يكشف عن حجم الاتفاق الذي سيشمل جملة من الترتيبات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والتكنولوجية، وسيمتد تأثيره ليشمل عددا كبيرا من الدول في محاولة صريحة لاحتواء التمدد الصيني والروسي في الإقليم، وبخاصة بعد عودة العلاقات السعودية-الإيرانية، والتقارب السعودي الصيني والسعودي الروسي، وقبول الرياض بعقد صفقات لبيع النفط بعملات غير الدولار.
والتوقيت يتعلق بالذات بتلك المقابلة شديدة الأهمية لمحمد بن سلمان. فقد قطع الأمير الشك باليقين فيما يتعلق بمفاوضات التطبيع، إذ أكد بأن المفاوضات لم تتوقف، ولكنه بذات الوقت حافظ على الغموض بشأن حيثياتها وما يمكن أن تُنتج، وبخاصة الجانب المتعلق بالفلسطينيين في هذه المفاوضات. وقد حافظت الدبلوماسية السعودية على هذا الغموض وإن كان بدرجة أقل على لسان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان ال سعود قبل أيام من مقابلة بن سلمان والتي قال فيها بأن "الرياض لن تطبع العلاقات مع إسرائيل قبل التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني". كما أشار الوزير إلى مبادرة السلام العربية للعام 2022، والتي حسب قوله تتيح إقامة علاقات مع "إسرائيل، ولكن أولا " يجب تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساس المعايير الدولية. بمجرد تحقيق هذا الهدف، يصبح كل شيء ممكنا"، أضاف الوزير.
يحافظ بن سلمان على أرواقه قريبا جدا من صدره (مثلما يقولون في لعبة البوكر)، فقد تجنب تماما ذكر أية توقعات بشأن الشق الفلسطيني من التفاوض، واكتفى بالقول "أنه موضوع خاضع للتفاوض"، وبأنه يريد أن يكون "للفلسطينيين حياة أفضل". ويجيد بن سلمان لعبة التفاوض من موقع القوة من خلال الاحتفاظ بالأوراق الحاسمة والتصرف كلاعب مستقل ويجيد استخدام إمكانياته. فالورقة الفلسطينية أصبحت بيده وهذا ما تكشفه خطوة المملكة لتعيين سفير غير مقيم في فلسطين. وهي خطوة يمكن فهمها كتعبير عن أن ما يمكن أن يتحقق للفلسطينيين سيبقى في إطار المكتسبات الرمزية. وقبلها تلك الزيارة التي قام بها مسؤولون كبار في السلطة الفلسطينية إلى السعودية لطرح موقفها من مفاوضات التطبيع مع إسرائيل. ذلك الاجتماع الذي بالكادر رشح منه القليل لوسائل الإعلام، انسجاما مع نهج السعودية المتكتم. وتدرك الرياض بأنها تضع الفلسطينيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الثقة بما يمكن أن تحققه السعودية لهم في إطار هذه الصفقة الكبرى، أو يخرجون منها بلا أي "مكسب". والغموض في تصريحات بن سلمان يشير بشكل صريح إلى أن الصفقة لن تتضمن تطبيقا فوريا لمبادرة السلام العربية، أو قبول "إسرائيل" بها باعتبارها سقف المطلب السعودي.
لا يوجد في قاموس المصطلحات السياسية والدبلوماسية أي مضمون محدد لتعبير "أن يكون للفلسطينيين حياة أفضل"، فهذا قد يعني ببساطة الرجوع إلى عهد خطة "جاريد كوشنير" التي تدور حول التسوية الاقتصادية. والقول بأن لا تطبيع بدون سلام فلسطيني-إسرائيلي قد يعني قبول الفلسطينيين بخطوات توسع نطاق الصلاحيات المدنية والإدارية للسلطة الفلسطينية، وتقاسم ما تبقى من الضفة الغربية مع "إسرائيل" ومستوطنيها. يدرك بن سلمان جيدا بأن إدارة بايدن لا مصلحة لها أبدا بممارسة أي ضغط يمكن أن يحمل "إسرائيل" على القبول بإقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967، فقد فشل في ذلك قبله كل من بيل كلينتون وباراك أوباما. ومن غير المتوقع أن يأتي أي رئيس للولايات المتحدة يمكنه أن يحاول لي ذراع "إسرائيل"، إذ يقف دونه غالبية صريحة من أعضاء الكونغرس مدعومين بالنفوذ المفرط لمنظمات اللوبي الإسرائيلي. فكثر هم أمثال وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو الذين يبدون رفضا شديدا لمشروع حل الدولتين، وهو ما صرح به يوم أمس، معتبرا بأن طرح موضوع الدولة الفلسطينية على طاولة مفاوضات التطبيع السعودي-الإسرائيلي سيحول دون الاتفاق، وحسب رأيه فإنه لا يمكن السماح بقيام مثل هذه الدولة التي سيقود "ها سلطة تدعم الإرهاب وتدفع لمواطنيها لقتل الإسرائيليين."
هذا ناهيك عن أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تصب كل إمكانياتها للاستمرار، بقوة القانون وبالأمر الواقع، في ضم معظم الضفة الغربية تحت سيادتها، ومن المؤكد أنها ستتفكك إذا قبل نتنياهو حتى بتنفيذ ما يعرف باسم "النبضة الثالثة من إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي" في الضفة الغربية حسب اتفاقية أوسلو، وهو أحد مطالب السلطة الفلسطينية التي وضعتها بتصرف السعوديين. وبكل الأحوال فإن نتنياهو قد حسم أموره منذ زمن برفضه المتكرر والصريح لمشروع حل الدولتين.
بالنسبة لبن سلمان فإن الورقة الفلسطينية قابلة للمساومة إذا ما قورنت بما تريد المملكة العربية السعودية تحقيقه من صفقة التطبيع. الصفقة تعتبر بالنسبة لابن سلمان تتويج لقدرته على تجميع مصادر القوة، وهو المعروف بنهمه المفرط للقوة، وتعتبر إقرار أمريكي بالأهمية الاستراتيجية للملكة السعودية كشريك قادر وله الحق بزيادة نصيبه في صنع القرار الدولي والإقليمي حيث تستدعي مصالحه، وهو ما جعل إدارة بايدن تتخلى عن شعاراتها السابقة بشأن التعامل مع بن سلمان، والتوقف عن توجيه النقد لسياساته الداخلية ذات الصلة بالقمع السياسي وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان. فالمشروع الأمريكي لربط الهند بأوروبا عبر المنطقة العربية لا يمكن له أن يرى النور بدون السعودية التي تنافس صديقها اللدود محمد بن زايد على النفوذ الإقليمي، والذي حظي باتفاقية شراكة كبرى مع الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والمعروفة باسم I2U2. وقد أظهر بن سلمان استعداده للذهاب بعيدا في تنويع تحالفات المملكة والاستثمار الاستثنائي في اقتصادات دول حليفة لأمريكا مثل الهند حيث أعلنت المملكة الاتفاق على استثمار 100 مليار دولار في الاقتصاد الهندي على هامش قمة العشرين الأخيرة. وإذا كانت المملكة قد نجحت في تقديم أوراق اعتمادها كقوة اقتصادية ودبلوماسية ورمزية، وعززت استقرارها الاستراتيجي بعودة علاقاتها مع إيران فإنها بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية حليف لا غنى عنه لاحتواء الصين وعزل روسيا.
نجح محمد بن سلمان حتى الان في إسالة لعاب "إسرائيل" لصفقة تطبيع "ستعيدها إلى مكانها في الشرق الأوسط"، حسب تعبيره. فهي ستمكن "إسرائيل" من تكريس تحالفاتها الإقليمية والدولية، وستفتح أمامها بوابات كانت موصدة في العالم الإسلامي حيث كلمة السر عند محمد بن سلمان. لكن هل ستقبل تل أبيب أن تتنازل عن استراتيجيتها المدعومة أمريكيا بأن تكون القوة الوحيدة ذات التفوق العسكري التقليدي والنووي في المنطقة مقابل ما سيجلبه التطبيع من منافع هائلة؟ وهل سيستطيع نتنياهو أن يمرر في حكومته أية تغييرات يمكنها أن تجعل "حياة الفلسطينيين أفضل"؟ وهل ستقبل حكومته وداعميها في واشنطن أن تصبح لدى السعودية اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل وجود معارضة قوية في مجلس الشيوخ لها، وفي حين ترفض غالبية الأمريكيين ذلك حسب اخر استطلاعات الرأي؟ سننتظر ونرى، فهذه كلها معيقات جدية من شأنها تقويض محاولات التطبيع بين الطرفين. ولكن إلى ذلك الحين فإن بن سلمان نجح حتى الان في جعل القيادة الفلسطينية تعتقد بأنه لن يذهب للتطبيع بدونهم، وهو ربما ما دفع محمود عباس للقول في مقدمة خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أيام: واهم من يعتقد بأنه سيكون هناك سلام في المنطقة دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. ونحج بن سلمان في جعل نتنياهو يعتقد بأن صفقة التطبيع وشيكة، ما دفعه لتبني وعرض الخارطة إياها.
الفرق بين محمود عباس ونتنياهو في هذه الحالة، هو أنه بينما يستند الأخير إلى مصادر قوة "إسرائيل" وعلاقاتها وما تحظى به من دعم من الولايات المتحدة الأمريكية والدور الذي ستلعبه في الاستراتيجية الأمريكية، فإنه يقف وراء محمود عباس 30 عاما من خيبات "أوسلو" ونهجها، وأكبرها الثقة بما يمكن أن يجلبه نظام عربي للفلسطينيين عبر التطبيع، ولنا في "التطبيعات" السابقة خير دليل، لمن أراد أن يستخلص العبر.