"عشرينية " تقِصُ عناء مسيرة حياتها
جنين-إنعام قشوع-ما أن أمسكت بقلمها وورقة دفتر، حتى استرجعت شريط حياتها الفرحة الحزينة في آن واحد. استيقظت من غفوتها التخيلية العشوائية لأحداث مضت، أخذت تفكر، كيف لها أن تصغ حكايتها؟ وكيف بوسعها أن تصنع نسيج أدبي جميل، لمسيرة حياتها العشرينية.
أحيانا بمجرد الرجوع إلى الماضي قليلا، أو العودة صوب الوراء، نقف عند تفاصيل أشياء لا نود تذكرها، لأنها بحد ذاتها قد تكون جروحا أو ربما غصة، ولكن لا يمكننا السير لإكمال سكة حياتنا، دون أن نضع من الماضي متكئا، ودون أن نجعل منه تذكرة للعبور.
لوحة فقر
إنعام قشوع واحدة من بين الآلاف التي عشعش الفقر في بيتها، ليأخذ وقته على مهل.
يبدأ قلمها يخط حبره فتكتب، "هناك بين أزقة حارات البلدة القديمة لبلدة جبع قضاء مدينة جنين، على الجانب الأيسر للشارع الرئيسي، يتربع بيتنا، بيت يشرح لك حين تمعن النظر إليه، معالم الفقر وتفاصيله. هو منزل يتكون من غرفة واحدة وأخرى سقفها أقل ارتفاعا ربما مطبخ، تستر نوافذه بقطع من البلاستيك ، وأخرى من القماش، تبدو مهترئة، ربما تآكلت مع طول استخدامها".
تكمل" هو مشهد لو تأملته جيدا وأعطيته حقه، لجعلك تؤمن بأن حكايات الفقر واقعا لا يدرك وجعه وصعوبة إتقان فن التعايش معه إلا من كان فقيرا".
هو مظهر خارجي، يجعلك تطرح على نفسك أسئلة كثيرة، أيعقل أن هناك أناس تسكنه؟ أيعقل انه يضم عائلة؟
بينما تقف مجاورا للمنزل، وتأخذك عينيك بحركة دائرية تجوب فيها الحي، تجد بيتنا نقطة السيادة، فهو عن غيره لون بطلاء شاحب، لتبدو عليه ملامح المعاناة ".
تكمل وصفها وهي ترتشف شيئا من القهوة المرة-الذي بات طعمها من لون حياتها-فتكتب في صفحتها" هذا ما تراه من الخارج، ولكن ماذا يقطن داخله؟"
عندما تضع قدميك على عتبة ذاك الباب الخشبي تبدأ برسم مخطط لداخليته، كيف تخيلتها؟ لنرى الواقع .
تضغط على ذاكرتها لتحاول أن تصف مر عيشها وقساوة المشهد "غرفة قديمة أرضها إسمنتية وجدرانها مرسومة بخطوط ألواح الطوبار، تعشعش فيها رائحة الرطوبة، ممزوجة برائحة الحرمان، بجان الغرفة، هناك أخرى صغيرة أشبه بمطبخ، كل ما تحتويه بضع أوان منزليه قديمة، وموقدة حطب وضعت في زاويتها، وصينية قش يعلوها بضع أرغفة من خبز الطابون"، مشهد آخر، يرسم في مخيلتك صورة معبرة تغنيك عن السؤال.
تسألك بدورها "في هذا البيت كم شخصا تتوقع أن يسكن؟ اثنين؟ ثلاثة؟ أربعة أم خمسة؟".
في هذه الغرفة كتعبير يصف الحالة بشكل أدق، يعيش ثمانية أفراد، خمسة بنات وابن واحد.
أنا الابنة الكبرى البالغة من العمر 9 أعوام حينذاك، وأصغرنا أختي طفلة العامين، أبي سبعيني وأمي في الأربعين من عمرها وهي الزوجة الثانية".
أخذت لنفسها زاوية أقل هدوءا، لأن محاولة استرجاع تفاصيل ماضي وذكريات أمر يحتاج لهدوء، خاصة إذا تنوي تذكره، أمر يتعلق بمفرد طفولة.
أغمضت عيناها لتعاود فتحمها من جديد متنهدة "انا الآن في محطة التاسعة، أي نحن في عام 2000 عام انتفاضة الأقصى، أما بالنسبة لي كان عام انتفاضة الفقر وثورته، فطفلة في التاسعة لا تتقن أمور الحرب،لأن علاقتها بمفردات اللعب والحب، أكثر فهما، أما ما يدور حول معركة الأرض والوطن، شيئا يأخذ أقل أهمية".
وتضيف قشوع "حين كنت أشاهد جماهيرا تخرج في مسيرات لنصرة الأقصى، كنت أقف بجوار بيتي المنسي متمتة، انتفضوا لفقري وقلة حيلتي، انتفضوا لي ولعائلتي، انتفضوا لأبي العاجز، لدموع أمي"
وتسرد "في ذاك الوقت، غالبا ما كنت أجالس أبي، الذي كان بدوره، يحاول أن يشرح لي أمورا تتعلق بالانتفاضة الأمر الذي يأخذ من تفكيري نصيبا أقل ، ولكني كنت أهز رأسي له ، لأوهمه بأني مستمعة".
"في عمري هذا، كان التفكير بكيفية الحصول على مصروفي المدرسي، وشراء ما احتاجه من مستلزمات مدرسية، أهم بكثير من هذا كله، كما وان تسلقي للأرض المجاورة، لأجمع بعض الحشائش كطعام للحيوانات التي كانت أمي تربيها من أرانب وإوز أمر أكثر متعة وتسليه".
رحل عام التاسعة ليتركنا على نفس الحال، كل ما تغير، هو راديو جديد بحجم الكف، يتنقل أبي بين محطاته، مستمعا للأخبار حينا وللبرامج حينا آخر، ربما هربا من الواقع، اشتراه من أحد الباعة أمام مروره من باب المنزل.
أمي ربة بيت تحاول كل يوم إعادة ترتيب خربشته، لكن دون جدوى، وانا كل ما أستطيع فعله، هو مشاهدة باقي اخوتي حينما يلعبون "الحجلة" المرسومة بأعواد الفحم على جانب الطريقن وهم يتقافزون فوق المربعات المرسومة خوفا من الوقوع.
بدأت العاشرة من عمري، بهم وقلق، وحيرة أكبر، ربما الآن علي أن أكون أكثر إدراكا، وأكثر وعيا عما سبق، وربما أيضا يتوجب علي أن أكون أكثر تفكيرا وانشغالا بطريقة لبرمجة حياتنا بشكل أفضل، وصورة أحسن، ويتوجب علي أن استقبل العام الجديد بشيء من التفاؤل، لا بيأس وتذمر.
صوتيات
لا شيء يضاهي تخلي أقاربك عنك في شدتك ألما، ولا الم أكبر من أن تجد نفسك وحيدا في دوامة الفقر، ولكن حين تشعر بأنك تغرق وحيدا، عليك البحث عن النجاة بنفسك، لا أن تقف مكتوف الأيدي، خامل التدبير.
تقف على رصيف عامها العاشر، فتروي "ربما لسوء الحظ أغلقت جميع أبواب الفرج، وختمت قلوب أقارب بالشمع الحمر، ربما أسعد الفقر حين اجتياحه لنا، وربما استضعفنا كوننا صغارا، كل ما اذكره لذاك الوقت جملا على فترات موزعة، كانت كل واحدة منها تقال من وجع ما، ومن خيبة ما، " ما حدا لحدا " هكذا تقول امي عندما تتحسر.
فعلا كما يقال "ما أكثرهم حينما تعدهم وما اقلهم حينما تحتاجهم" كنت دائما اسمع امي تخاطب نفسها وتردد "حسبي الله ونعم الوكيل" تصبر نفسها مرددة "الدنيا دوراة، ما في اشي بضل ع حاله".
اما ابي فقد كان يجمعنا الستة، وأمي تراقبنا من بعيد يروي لنا إشعارا، قيلت في الفقر والعناء، وكان يحدثنا قصصا معظمها خرافية، واخرى واقعية، يفسرها بالمجمل ليرسخ في اذهاننا فكرة معينة تعني بلهجته العجوز"ياما ناس كانوا فقراء وصاروا يابا ". كنت استمع متعجبة، عن ماذا يتكلم ابي؟ عن شو بحكي.؟ لم اكن حينها افهم مغزى حديثه، بالرغم من انه كان يرويها بالفصحى ليفسرها بالعامية رويدا رويدا.
عاما مضى ليأخذ معه عاما اخر، وبقاء الحال على ما هو عليه، شيء يشعرك بالملل، ويجعلك تتشجع لتصنع تغييرا باتجاه ايجابي، غصة المشهد تجبرك على نسيان مفردات الطفولة، لأنك الآن بحاجة لأن تكون أكبر سنا وانضج عقلا،
عليك الآن أن تضع دفاترك وكتبك المدرسية جانبا، لتفكر فقط بكيفية الخروج من مازقك الكاحل الظلام، وأن تضع حلولا مبدئية لهذا.
أمامك خيار واحد، هو أن تسابق الزمن لتكن على دراية أكبر بما يحصل، وتقنع نفسك بأنك تمتلك القوة والشجاعة لتنتصر في معركة مع الفقر.
ابتدأت اللعبة
هل جربت يوما ان تلاعب الزمن؟ هل سبق لك وان مثلت يوما في أحد المسرحيات المدرسية، شخصية رب أسرة في الثلاثين من عمره؟ تسرد حوارا لورقتها" علي الآن أن اطرد الكسل، علي أن أجبر نفسي على التعايش مع شخصي الجديد، علي الآن أن أتقمص شخصية بطل قصة، وأن الغي مفردات طفولتي، وهواياتي التي أحب، لإمارس بدلا منها لعبة مع الواقع، تكون أكثر جيدة، لعلي وعن طريق هذا أستطيع أن أحدث نقلة نوعية تحسن من مر عيشنا ولو قليلا"
تكمل إنعام " انا الان على مشارف العطلة الصيفية، لعام 2004 ، وها قد أصبح لدي ثمانية شهادات مدرسية تلحق بكل واحدة شهادة تقدير بامتياز، فرغم سوء ظروف معيشتنا، وصعوبة توفر أدنى حاجتنا الأساسية، إلا أنني كنت دائما احصل على المرتبة الأولى والثانية، بالإضافة إلى أنني كنت اشارك في المعارض والمسرحيات، كما وأنني كنت المسؤولة عن تقديم الإذاعة المدرسية صباحا"
وأحيانا اخرى كانت معلماتي تضعني عريفة صف، هذا امر كان يغرقني فرحا.
حياتي المأساوية جعلتني أكثر إيمانا بأن علمي وشهادتي هما السبيلان والسلاح الوحيد الذي سينقلنا من حياة الجحيم إلى النعيم".
بدأت أفكر كيف بإمكاني أن أتقن دور أب معيل لأسرته بكل حرفية وانا الاكبر بين اخوتي، لأن أكثر من ثلاثة أرباع مسؤولية عائلتي تقع على عاتقي، ربما لأني الأكبر سنا.
في العطلة الصيفية لدي الكثير لافعله، ولكن ليس بلهو وزيارات وسفر، أو حتى التسجيل بمخيم صيفي، او ان ازد عدد ساعات نومي"
إذن ماذا؟
في عطلتي هذه، علي أن أعيد ترتيب جدولي اليومي، لاستبدل ساعات الدراسة وتحضير الواجبات بساعات عمل أو مهمة بيتية.
يجب علي أن ابذل كل ما بوسعي، كي انجم للمستقبل، كما علي أن ابني من أحلامي الطفولية طوال الثلاثة عشر عاما واقعا.
فذاك البيت التي هندسته في مخيلتي، وتلك الزخرفات التي أخفيتها حلما، وتلك الملابس الجميلة التي لطالما حلمت بأن اشتريها وارتديها أن الأوان بأن تحدث بالفعل.
الطفلة العجوز
لا شيء يأتي بسهولة، فعندما تريد أن تبحث في حياتك عن نقطة بيضاء، تأخذك لسكة قطار يقطنه الفرج، عليك أولا التحلي بالصبر والشجاعة، عليك ان تجري اختبارا لنفسك، أن كنت قادرا على تحمل المسؤولية أم لا؟ أم أنك حين تسقط مرة لن تجرأ على المحاولة من الجديد.
تسرد حوارها الذاتي"لقد فرغت كل وقتي للعمل ومساعدة أمي، لتستطيع معا أن نسلك دربا أخضر يأخذ بنا نحو الأفضل، وتضيف أمي كانت تتقن مهارة الخياطة، وكانت تحيك الملابس بالأجرة لمن يرغب بهذا، ولكنها وبعد فترة أصبحت تعاني من طول النظر، الذي وقف عائقا بينها وبين ماكينة الخياطة ، وعلى حد تعبيرها "ابرة وخيط ما بطعموا خبز، وما بكفوا عائلة".
أما أنا فكنت أتفرغ لأعمال المنزل، وقد تعلمت أن اخبز على الحطب، كوني استسهلت موقدة الحطب أكثر من الطابون".
وكان علي أيضا ان انتشل الماء من النبعة القريبة لأغسل الملابس، واجلي الأواني، لأن جميع تمديدات المياه كانت معطلة.
أخذت من كلمة إبرة وخيط، بصيص امل، أو ربما مفتاحا لأحد أبواب الفرج المغلقة، لقد فكرت بأن اصنع المطرزات وانسجها، تخمينا مني بأنه لربما من هنا يبدأ سواد حياتنا بالتلاشي.
تضيف" كان بجوار بيتنا قن صغير، تقتني امي فيه ست دجاجات لا أكثر.
كنت يوما تلو الآخر إذهب واجمع منه البيض، لابيعه لجارتنا صاحبة البقالة، فاشتري بثمنه، قطعة قماش وخيوط ملونة، اطرز فيها ما استيسر لي".
لقد تعلمت مهارة التطريز بكل حرفية، وقد كنت ابيع ما تكمله يداي وتنسجه، لمعرض في جنين، كل قطعة حسب حجمها ومواصفاتها.
لا شك بأن هذا العمل، متعب وشاق، ولكنه في الوقت ذاته ذو مردود جيد خاصة لعائلة بمثل وضعنا، عوضا عن أنه أمر مسلي، استطعت بعملي هذا، أن اشتري جميع مستلزماتنا المدرسي للعام القادم، من دفاتر واقلام وغيرها، كما واستطعنا شراء الزي المدرسي لتخيطه لنا امي، وقمت بوضع ما تبقى من المال بحصالة مصنوعة من الفخار اشتريتها خصيصا".
تكمل " مع بداية العام الدراسي لم تنته اعمالي، بل أعدت تنظيم وقتي، مرة أخرى بشكل مناسب، خصصت وقتا للدراسة، وآخر لحياكة المطرزات، وآخر لعمل جديد إلا وهو تعبئة أوراق التبغ ووضعها في باكيتات وعلب خاصة"
أما عن أمي فقد كانت تعمل في إحدى سهول قرية ميثلون المحاورة، تجمع الخضراوات وتقدمها وتعبئها في صناديق خاصة، لتأخذ بدل هذا كله أجرا قليلا.
قبل عودة أمي من عملها مساءا،، كان علي أن ارتب المنزل، واعد الطعام، أما عملي الذي كنت اعتبره مفاجأة سارة لامي، هو أن أنهي تعبئة 2 كيلو من التبغ قبل عودتها، مقابل20 شيقل للكيلو الواحد، أي أنني كنت أتقاضى مساء كل يوم 40 شيقل ، وحين المساء، أتفرغ لدراستي، أعد واجباتي المدرسية واطالع المواد..
وبعد فترة أصبحت أتقن فن الطبخ الذي أصبح ومع الوقت هوايتي المفضلة، ولكن كوني لا استطيع القيام بكل شيء وحدي، كان علي أن أعلم الفن نفسه لأختي التي تصغرني سنا".
بقينا على حالنا هذا ما يقارب عام ونصف العام،، أمي في عملها ، وأنا غارقة بين أوراق التبغ التي لم انس رائحتها حتى اللحظة،، ومهنة التطريز التي لطالما وخزتني ابرتها لتجعل من وجعها أمرا اعتياديا، وبين الدراسة التي لم أقصر في حقها يوما،أما ما كنت اتقاضاه أجرا من عملي، كنت أضعه في حصالة الفخار.
تسرد لورقتها " انتهي موسم التبغ، ولم يعد موزع التبغ يجلبه لنا، أما السهول فحرثت تزرع مرة أخرى لتزرع بأشياء اخرى.
عصفورين بحجر
بجوارها قطعة أرض تبلغ مساحتها ما يقارب ال 60 مترا، استغلالها في عملين، الاول قررت أن استبدل مساحتها الخالية بمساحة خضراء تعود بالنفع علي وعائلتي.
في أحد الأيام وخلال عودتي من المدرسة، استدرجت طريقي لأحد الباعة التي يمتلك مشتلا أو حقلا كبيرا، يحتوى جميع انواع الشجر والبذور، ساقتني قدماي للطريق اليه، لاشتري بعض أشتال البندورة والفلفل، وبذور السبانخ والبقدونس، وفي اليوم التالي، أخذت بيدي فأسا صغيرا استخدمته لنكش الحقل، لتصبح بهذا أرضا جاهزة للزراعة لاقوم في اليوم الثالث، بزارعتها، ونثرها بالبذور، هذا نهج تعلمته عن أبي.
أنهيت عملي هذا وأتممته على أكمل وجه،، وحين صباح اليوم التالي، ومع إشراقة شمسه التي تمنحك خيوطها بشرة تفاؤل، استيقظت من نومي هارعة، لأحدق النظر مبتسمة لما فعلته يداي البارحة.
أما عن العمل الثاني، كنت قد اقتطعت من مساحة الأرض جزءا صغيرا على شكل دائرة عمقها حوالي 100 سم، استخدمتها لصناعة الفحم، حيث كنت اجمع اعواد الحطب الكبيرة، أضعها داخلها واغطيها بروث الحيوانات وبعد هذا أشعل فيها النار، فأتفقدها بعد يومين لاجدها هامدة، افتحها فأخرج الحطب منها لاطفئه بالماء واضعه صوب أشعة الشمس ليجف، ليصبح بهذا فحما، جاهزا للبيع لمن يرغب بالشراء.
أما عن محصولي فقد بدأت تظهر عليه ملامح الاخضرار، لامتلك بهذا فرحة تعادل خضار الأرض بأكملها،
وقد عبرت امي عن هذا بلهجتها الفلاحية" ايدك خضرة"، بعد أن نما المحصول، بدأت اقطفه، ابيع جزءا لصاحبة البقالة نفسها، وآخر ابقيه لنا"
ذخيرة
طوال ثلاث سنوات وانا اعمل بجد، وهدفي أن اتغلب على الفقر ومرارة عيشته،
طوال ثلاث سنوات وانا أضع ما اجنيه من أجر وكد وتعب ومجهود في حصالة الفخار لا زلت احتفظ بها لتذكرني بمرارة ما مررت به.
لقد قمت بكسرها لابدأ العد واحد اثنان ثلاثة، حتى أكملت أمي العد بدلا مني، ، لأجد بحوزتي 2050 دينارا أردنيا، بلهجة امي "واحد ينطح واحد".
دهشت للوهلة الأولى لسببين، الأول لأنني في حياتي اليومية لم احمل مصروف مدرسي إلا بالصدفة، فهذا العدد بالنسبة لي كنزا لا اقل، أما السبب الثاني ايعقل
أن يكون هذا المال حقيقة لا حلما؟.
نظرت لامي التي تعتريها فرحة وسط دموع لتقل لي انك "طلعتي كدها يا ياماه" لأجبيها مقبلة جبينها "طالعتلك".
لقد قمت بوضع المال في حرج عبائتها لتخبئه، بينما انا سافكر من أين ابدا؟ ماذا بامكاني ان افعل بهذا؟
حيرتي لم تكن بماذا افعل، بل من اين ابدا؟
تلك الليلة لم انم البتة، وأنا أفكر فقط ماذا افعل بـ"التحويشة"؟ وأذكر وقتها" أنني حين غفوت قليلا رأيت في المنام أن أحدهم جاء لسرقة كنزي "فبيقت مستيقظة حتى الصباح.
وتضيف" حتى ذاك النهار بقيت أفكر ، وقد وبختني إحدى المعلمات كونني لا انتبه للحصة والدرس " انا الان شاردة في النقود وكيفية استغلالها، ان الامر الأول والأكثر أهمية هو المنزل، بإمكاننا الآن ترميمه ليصبح بحال أفضل، انا الان تحقق حلمي بأن يكون لي منزلا متواضعا جميلا بعض الشي، علي الان أن أخطط لهيئته الجديدة .
وتكمل "اشرت على امي بهذا فوافقتني الرأي بكل رحب وسعة، حيث أكدت أن انفق النقود لترميم المنزل هو البند الاكثر اهمية، والاكثر اولوية."
ارادة
هل دققت يوما في مقولة "من جد وجد ومن سار على الدرب وصل"؟ لقد اتقنتها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ورسختها داخل عقلي دائما وابدا،لانها حكمة اذا اخذت بها انرت طريقك بنفسك.
الان كسبت رهانا بيني وبين نفسي،الان صنعت من لا شيء كل شيء، واثبت لمن كان يشاهدني، فيسخر مما كنت افعل، ان من يرغب بشء ويتوكل على الله ينال ما يتمناه.
وتروي "مهما كانت فرصة الامل صغيرة، ومهما كانت الطريق للوصول طويلة وصعبة، لا بد من نهاية تشرح لك ما ابتديت به، فعندما تكن لديك ارادة وعزيمة لتاخذ منهما سلاحا،انت حتما ستنجح، فدوام الحال من المحال.
رمم البيت وأصلح ما كان فاسدا فيه، انتقيت كل الأشياء بنفسي برفقة أمي، تغيير الحال ليصبح اجمل، وبدأت معالم الفقر تتلاشى بعيدا، اخذت معها ذكرياته المريرة، استبدلت الابواب، كما ووضعت نوافذ الالمينيوم بدلا من تلك القماشية التي رافقني صوت خشخشتها عند مداعبة الرياح لها سنينا كثيرة، لتصصم احلامي على ارض الواقع.
أضيفت للبيت غرف اخرى ، ليصبح اوسع، ولكن ما تم بناءه كان من ذخيرة أمي التي وفرتها حين كانت قد اخذت من احد اهالي القرية أرضا كضمانا كانت جميعها مزروعة بأشجار الزيتون، لتهتم بها طوال العام ، وتزرعها بما ترغب،ليكن نصيبنا ثلث الناتج، ولمالكها الثلثين.
وتسرد"كنت اذهب برفقة امي مسجلة غيابا عن المدرسة لأساعدها في زراعة الأرض، وتضيف"كنا احيانا نزرعها عدسا واخرى فول، ومع بداية الشتاء من كل عام كنا نزرعها قمحا، لنراه في الصيف ذهبا اصفر يداعب خيوط الشمس، كنت استيقظ كل بالصباح الباكر، اسير انا وامي في طريقنا باتجاه الأرض، لنبدأ الحصاد، اذكر حينها ان الخدوش الذي رسمها المنجل على يداي، شاهدة على تعبي.
بقيت الارض بحوزتنا ضمانا، لتنتقل ملكيتها بعد فترة باسم امي.
ابي لم يكن بوسعه ان يفعل شيئا سوى ان يردد كلمته المعتادة "الله يرضى عليك يا بنتي، والله يعوضك عن هذا التعب كله، براحة في المستقبل، وسعادة لا تنتهي ".
أنهيت عامي السادس عشر،لانتقل بعدها لمرحلة جديدة، تطلب جهدا من نوع اخر، الا وهي مرحلة الثانوية العامة "التوجيهي"، باستطاعي الان ان اريح فكري، وان ارمي بالقلق بعيدا، لان كل شيء اصبح على ما يرام، بالاضافة الى ان هناك مساحة، امشي فيها ذهابا وايابا ماسكة كتابي االذي ادرس.
انهيت التوجيهي لأحصل في النهاية على معدل 90 فرع ادبي، وقد بدأت افكر اي جامعة لارتيادها، وماذا ادرس؟
قررت ان اختار مقعدا في جامعة النجاح، وأكملت تعبئة استمارتي بان اختار من كلية الإعلام طريقا لي، درست في الجامعة بالكلية التي اخترتها، تخصص صحافة مكتوبة والكترونية، وما ان ابتدأت مشواري الجامعي، حتى عكرت فرحتي بوفاة ابي في الفصل الدراسي الاول بتاريخ 5/11/2010 بسبب جلطة دماغية اخذت به كسيح الفراش لعامين ونصف العام .
تكمل"توفي ابي، ليتركنا وأمي نكمل ما ابتدأناه، لقد أهلكه المرض ،ولكنه سافر راضيا مطمئنا، أمي صاحبة العطاء اللامحدوود، أكملت كفاحها، لترى منه مستقبلا يانعا يخص أبنائها فقط ".
وتكمل" ها أنا الآن على عتبة التخرج وإنهاء مسيرتي الجامعية، ويعود هذا الفضل لامي وأبي اللذان زرعا في نفسي وذاتي الصبر والإرادة".
وتختم بقولها" الفقر ليس نهاية الشيء، وإنما بدايته، الفقر ليس عيبا، وإنما هو اختبارا يحدد مدى امتلاكك للعزيمة والشجاعة".
|