فيحاء خنفر
الكلٌ يلوذ إلى البرش(السرير المعدني) المخصص له, بعضهم يضع سماعات الأذن, أو يحمل المذياع وينصت بخشوع.. إنه مساء باردٌ من تشرين الأول_2012 في سجن مجدو_المتاخم لمدينة جنين_ الذي يحوي زهاء الألف أسير, صوت المذيع يصدح الآن إيذانا ببدء حلقة جديدة.. الجميع ينصت باهتمام ..يصغون كأنما لا شيء يدركونه سوى هذا الصوت.
في الغرفة رقم 8 من قسم 8 يجلس على أحد الأسرة المُعتقَل حمدان حمدان يصغي كالباقين للبرنامج علَّه يحظى برسالة أو مكالمة من الأهل, وفي أوج انتظاره وردت مكالمة هاتفية استقبلها بلهفة بالغة بمجرد قول المذيع أن الاتصال يخصه وكان الصوت الذي سمعه يبعث بالبراءة المطلقة
"بابا حبك"
أول ما قاله الطفل الذي يبدو أنه ببداية نطقه, لتتدحرج دموع الوالد على وجنتيه, ثم انتزعت أمه سماعة الهاتف لتوجز سيلا من الكلمات والأخبار في لحظات وتسلم السماعة مباشرة إلى الوالدة التي حاولت أن تختزل التحايا والأمنيات الغزيرة والأشواق الملتهبة لابنها الغالي, ويعاود الطفل انتزاع السماعة مرة أخرى وكأنه يدرك أنه يسابق الوقت
"بابا تعال ..بابا بستناك .. طووط.. طوووط.. وانتهت المكالمة.
وتتابعت دموع الأب, لم يحبس الأسرى المحيطين بحمدان دموعهم التي تدحرجت بدورها ممزوجة بغصة.كلٌ يستذكر أبناءه الذين يكبرون وأهله وأحبابه, كم هم بعيدون عن كل ما في الحياة!.
صمت نواف العامر الأسير السابق للحظات كأن تذكره لذلك الموقف أحيا ذكريات أخرى في المعتقَل تجرّع تفاصيلها التي لا تُنسى حسب قوله, ثم تابع وصفه لحالة غرف المعتقل وقت بدء برنامج التي أشبه ما تكون بمنع التجوال, لكنها مختلفة لكونها طوعية, ويقول أبو عامر" لا صوت يسمع سوى صوت المذيع يصدح في غرف الاعتقال وكلما ورد اتصال جديد يخص أحدهم صاحوا باسمه خشية عدم استماعه.. فيقولون:يا فلان أهلك يتحدثون".
ويستذكر العامر "موعد مع الأحرار" الذي تبثه إذاعة الأحلام من جنين ذلك البرنامج الذي لطالما استمع إليه في فترة اعتقاله داخل سجن مجدو..مؤكدا أن الأسير في عزلته عن الخارج يرى أي خبر يصله من الأهل أمراً عظيماً يدخل البهجة لقلبه ولو كانت ممزوجة بألم الشوق والحسرة حسب تعبيره مؤكدا أن البرنامج بالنسبة للأسرى يعتبر نافذة للحياة ولو انحصرت بوقت الحلقة التي تبث في يومين خلال الأسبوع حيث يتاح للأسرى في عدد من أقسام سجن مجدو الاستماع لها عبر الراديو.كما هو الحال لكثير من الأسرى في مختلف سجون الاحتلال.
البرامج المخصصة للأسرى أكثر من يعرف قيمتها هم الأسرى أنفسهم الذين يتوقون لأي شيء يربطهم بالحياة خارج أسوار السجن, فيسعدون حين يرد اتصالٌ من الأهل ويتبادلون التهاني وأحيانا الحلوى كلما انتهت حلقة من البرنامج, ويحرصون على الاستماع إلى الحلقات المعادة.
وبالنسبة لأسرى محرومين من زيارة الأهل تعتبر مكالمة منهم موجهة لابنهم عبر حلقة إذاعية بمثابة زيارة لحظية يتلهف لها الأسير وهذا ما أكده الإعلامي أمين أبو وردة الذي يقدم برنامجا إذاعيا مخصصا لشؤون الأسرى, برفقة الزميلة امل القسام غبر اذاعة النجاح دفعته تجربته في الاعتقال إلى إعداده.. حيث اعتقل في سجن مجدو ولم يكن تردد الإذاعة التي تبث برنامج الأسرى تصل لقسمه.
ويقول أبو وردة:"شعرت بمعاناة الأسرى وحاجتهم لأي تواصل مع الأهل وقررت أثناء اعتقالي أن أعد برنامجا مخصصا للأسرى فور خروجي من السجن", ويرى أبو وردة أن هذه البرامج توجد جسرا من التواصل بين الأسير وأهله, ومن شانها أن ترفع معنوياته مؤكدا على ضرورة الاهتمام ببرامج الأسرى كونها تهون على المعتقل ولو بشكل مؤقت حسب قوله.
البرنامج الذي يقدمه الإعلامي أمين أبو وردة عبر إذاعة النجاح لاقى اهتماما كبيرا من الأسرى الذين يتاح لهم سماع هذه الإذاعة, ويؤكد إنه سعيد جدا بنجاح برنامجه الذي يشهد ضغطا كبيرا على خطوط الإتصال في كل حلقة على ضرورة استمراره في رسائل أوصلوها له من داخل السجن, ويقول أبو وردة "أسعد كثيرا عندما يصلني من الأسرى أنهم يتابعون برنامجي ويريدون أن أتواصل فيه".
لحظات "مسروقة"
كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء من يوم الاثنين في الشهر الأول من عام 2012 عندما صدح صوت المذيع علي السمودي إيذاناً ببدء حلقة "موعد مع الأحرار" على راديو فرح في مدينة جنين المتاخمة لسجن مجدو حيث تسبح المدينة والسجن في أتساع مرج إبن عامر "السلام على الأحرار في موعدهم ، السلام على من ينتظرون بشوق رسائل الشوق من الأم ، الزوجة ، الأطفال ، الأحباب ، كلمات تقتحم حجب الأسلاك الشائكة والأحكام الظالمة ، أسعد الله أوقاتكم ، وهذه تحياتي انأ علي السمودي ونواف السويطات".
التزم الأسرى في غرفة رقم 8 في القسم 8 الصمت يستمعون لصوت السمودي ،وفي منتصف الحلقة كان الاتصال:
- ألو .... أستاذ علي ؟
- نعم ، مين معي؟
- انأ أشواق ابنة الأسير الإعلامي نواف العامر من كفر قليل المعتقل إداريا بسجن مجدو.
وصمت نواف للحظة أطلق خلالها تنهيدة قصيرة, ثم عاد ليروي الحوار بين المذيع وابنته:
- أهلا زميلة أشواق ، طبعا بحب أبلغ زميلنا نواف ان إبنته أشواق تخرجت من قسم الصحافة قبل أيام وأجريت لقاء معها سينشر خلال أيام في جريدة القدس وغيرها، تفضلي شو راح تحكي للوالد في سجن مجدو ؟
- الحارة والبيت تغرق في الظلام وانت بعيد عنا....... وتحشرجت الكلمات ، وسكتت أشواق.
- توكلي على الله ، أنا بعرف نواف عنيد ولا تهزه العواصف فكيف تسمعينه صوت الحزن يا أشواق؟
- تتوقف أشواق وتلتقف سماعة الهاتف الصغيرة ابتهال ترسل البرقيات سريعة كأنها قصف متقطع عن أخبار العائلة والجميع وعن ولادة جُمان بنت أختي، وزهراء بتقلك حبيبي بابا ..
- انتهى الاتصال كأنه وميض برق عاجل ، ودخل نواف في شرود طويل، تسللت منه خلاله دمعة جافة خجولة
بينما بعثت الكلمات الدفء في جسمه الذي تلفع بسترة بنية اللون من إدارة السجن ورشفت كأس اليانسون الساخن دون أن يشعر بلسعته تلتهم سقف حلقي ، وعاد للشرود من جديد ، لكن صيحة الأسير فؤاد الخفش "وين الحلوان أبو موسى ،وحدووووووووه"، أعادت اليقظة له من جديد ، قبل أن ينتهي بث البرنامج الذي سرد مقدمه التحايا للأسرى الإعلاميين وكان نواف أبو عامر واحداً منهم ، دون أن يغفل اسم الخفش الذي يمده بالأخبار والتقارير عبر رسائل المحامي .
يصف نواف ذلك الاتصال الذي عرف منه بتخرج ابنته أنه من أصعب ما يتذكره في سجن مجدو, ويقول:" كان من أصعب المواقف التي مررت بها أن تتخرج ابنتي وتقطف ثمرة جهودها دون أن أشاركها هذه الفرحة وأحضر حفل التخرج الذي لطالما تُقت إليه"
حرمان نواف العامر من حضور أهم الأوقات لابنته الكبيرة هو مثال للحظات " مسروقة" من كل فلسطيني قبع خلف قضبان الاحتلال, فكثيرون منهم يحرمون من رؤية أبناءهم يكبرون ويجتازون مراحل الدراسة ويتزوجون وآباؤهم في غياهب الجبّ لا يشهدون سوى العزلة, وعنجهية السجان ويتمنون أي جسرٍ للتواصل مع أهلهم وذويهم خارج السجن..لذلك تبدو هذه البرامج المخصصة للأسرى عظيمة القيمة بالنسبة لهم, ويقبع الآن في السجون الإسرائيلية زهاء الأربعة آلاف أسير فلسطيني لكلّ منهم حكاياته ولحظاته المسروقة!