كنت أراقب العملية الانتخابية الرئاسية في ولاية الثورة "سيدي بوزيد" التي أشعلت شرارتها نيران مختلفة على الصعيد العربي، ما أدى إلى تسمية ما يحدث "الربيع العربي". أسدل الستار قبل أيام على الانتخابات الرئاسية التونسية التي تنافس عليها كل من محمد الباجي قائد السبسي ومحمد المنصف المرزوقي، بلغت النسبة العامة للمشاركة في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية 95.04 بالمائة بالداخل و14.27 بالمائة بالخارج، وفق ما أعلنته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وتم إعلان فوز الباجي قائد السبسي بالانتخابات.
ما رأيته في ولاية الثورة يجعلني كمراقب يعشق تونس كما يعشقنا أهلها أقول ليس المهم من فاز أو سيفوز بعد أي انتخابات قادمة، لأن "الديمقراطية" لا يتم ولادتها فقط في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية على الرغم من أن التونسيون يشهد لهم بأنهم وضعوا نقطة النهاية لما يقارب ثلاث سنوات، واجهت البلاد خلالها أزمات متعددة أصابت مجالات مختلفة من أمنية، اجتماعية، اقتصادية... الخ.
وعلى الرغم من أنهم يكونون قد خرجوا من حالة المؤقت الى الاستقرار والهدوء وهو مطلوب حتى تستمر تونس في البناء والإنارة التي يحتاجها ليس فقط أهل تونس وإنما أهل القاهرة، القدس، صنعاء، دمشق، بيروت وكل الدول العربية.
هناك بلد الرجال سيدي بوزيد، رأيت شباباً بلا أمل وطموح تائهين لا يؤمنون بمن سيأتي ويجلس على مقعد الرئاسة، في المقاهي الشعبية كان تواجد الشباب أكثر من تواجد الشباب في مراكز الاقتراع، لهذا كما كنت أتوقع حصلت الدائرة الانتخابية بولاية سيدي بوزيد على أقل نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية، برأيي هذا المقياس شمل أغلب الولايات في تونس وهو مواصلة عزوف الشباب عن المشاركة في العملية الانتخابية، ما يتطلب وقفة جادة مع الذات التونسية كل حسب اختصاصه ومعرفة الأسباب من هذا العزوف الذي يجب أن يدرس ليس فقط من حيث المشاركة السياسية، وإنما هل يتم الاستماع لهؤلاء الشباب من أجل الاستمرار في المشروع البنائي والتقدمي لاستنهاض البلد بكل شرائحها المجتمعية!؟
وكما يعلم الجميع، فإن الشباب معول التنمية في أي بلد، لهذا خلال الأيام التي قضيتها هناك أراقب الانتخابات كنت أسأل ذاتي العديد من الأسئلة وخصوصاً بأني أشاهد بعين ما بعد الانتخابات ما بعد الثورة ما بعد وقبل التأسيس للديمقراطية، ليس من السهل التحدث عن الديمقراطية دون العمل على خلق أجواء تناسبها، المهم ليس أن تشعل ثورة وانتفاضة في بلد ما بقدر معرفة كيفية التأسيس لنجاح مطالبها الشرعية.
تونس الآن عليها أن تركض في زمن العولمة واستيعاب الحداثة، وخصوصاً نحن العرب لم نصل مرحلة الاستيعاب لها، وعندما حاولنا أن نستفيق للتفكير بها كان العالم _ غير العربي _ قد سبنا بطرح مفهوم ما بعد الحداثة. لهذا على تونس البحث عن التنمية التي تضمن العدالة الاجتماعية للمواطن التونسي ليس على أساس الجغرافيا التي أرهقتها شمالاً وجنوباً، وإنما كل تونس. وهنا يأتي السؤال _ مربط الفرس _ من يستفيد من معول التنمية وكيف يجب تفعيلها وتقسيم الخطط التنموية على كل البلاد.
الشباب والصبايا ممن تحدث في سيدي بوزيد يقولون بصوت مرتفع إن الأزمات الاجتماعية هي نتاج عدم المساواة وسيادة الجور والظلم والحرمان وكذلك التهميش للجنوب والوسط التونسي وتفضيل الشمال التونسي. لهذا أي زائر إلى تونس سيشاهد بعينه نتائج الليبرالية الرأسمالية أنتجت طبقية مجحفة من حيث الفقراء والطبقة المتوسطة والأثرياء.
الجنوب والوسط التونسي خزنة وثروة مالية لا تقدر بثمن إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحي والسليم، في تلك المناطق يوجد العديد من القطاعات المهمشة وأهمها السياحة، لأن الجنوب التونسي عبارة عن جنة لا يتم النظر لها كمصدر رزق للعديد من الشباب الذي يعاني من مرض البطالة الفتاك في نسيج المجتمع، وإذا ما أضفنا القطاعات المختلفة المهمة أيضاً من زراعة، تربية المواشي، صيد الأسماك، الصناعات الحرفية التقليدية التراثية. وهنا أتذكر ما قاله لي شاب أثناء سؤالي له عن الحالة الاقتصادية، قال: "يا سيد استحضرنا العلوش من اسبانيا لأنه أرخص من هنا حتى ولو قمنا بتربيته بأرضنا". المقصود بالعلوش هو: الخروف.
في النهاية، يجب أن أقول إن تونس أثبتت أنها بلد قادر على تركيز مؤسساته المختلفة بشكل مستقر، خصوصاً في ظل مؤسستين أمنية وعسكرية أثبتتا خلال الانتخابات الماضية برلمانية ورئاسية انحيازهما للجسد الديمقراطي من خلال تأمين الظروف الملائمة لإجراء انتخابية حرة رغم التهديدات التي جاءت من قبل المتطرفين. ليس المهم من كسب وخسر.. المهم أن العملية الديمقراطية بدأت لكن عليها أن تؤسس قيم العدل والحرية والمساواة والكرامة الوطنية. تونس بدأت ثورتها الآن وهي بحاجة لكافة سواعد الشباب. مبروك تونس..