بين عتبات الساعة الواحدة ليلاً ووعود الزيارات المؤجلة
أحمد أسير دفع "ضريبة أن يكون فلسطينياً"
إعداد حياة أنور دوابشة
أن تسمع عبارة هذه ضريبة أن تكون فلسطينياً فابتسم أنت في فلسطين ، ستُطلق النار على قريب لك وستصمت وتردد العبارة وستثور قليلاً، لكن سرعان ما ستنسى، سيُعتقل لك أحباب وستصمت وسترى تلك القوة التي لطالما استشعرت بها في جسدك تذهب أدراج الرياح وكأنها لم تكن يوماً، إنها ضريبة جنسيتك الفلسطينية، ستُسجن وستؤجل محاكمتك لشهور عدة وستنتظر وقلبك يشتعل جمراً، تلك اللحظة التي يسمحون لك فيها أن تزور قلبك، ويبدأ عدك التنازلي، عدٌ سيكلفك سنين من حياتك مقابل لحظة حرية.
أحمد سليمان عثمان، من قرية مجدل بني فاضل، متزوج وأبٌ لزهرتي رمان(جنى وسارة)،كان يعمل في مطعم متواضع قبل تلك الليلة الباردة الماطرة.
في الثاني عشر من شهر آذار من السنة الماضية، سمعت السيدة حفصة دوابشة وقع خطوات ثقيلة تقترب من الباب، سرعان ما تعالت الأصوات قائلة" افتخ باب جيش" أسرعت حفصة لتوقظ زوجها أحمد الذي بدوره بادر لفتح الباب.
تزاحم جمع من الجنود على أعتاب البيت وقائد معهم يتحدث العربية بطلاقة مدهشة، تتذكر حفصة قوله لأحمد : مساء الخير أنت أحمد؟ يقولون أنك تعد فلافل وحمصاً لذيذ المذاق.
ذو اللسان العربي أشار على أحمد أن يحضر هويته فجلبها من السيارة حيث كان قد نسيها هناك،ثم أخذ يسأله عن اسم زوجته وطلب منه أن يناديها.
زوجة أحمد سمعت ذلك وارتدت ملابس الصلاة وتوجهت من تلقاء نفسها نحو الباب تروي" قال لي نعتذر عن إزعاجكم ولكننا نريد تفتيش البيت، هل من أحد هنا غير بناتك الصغيرات، فقلت: لا، فطلب مني أن أحضرهن للممَّر وأن نبقى هناك حتى يدخل الجنود ليباشروا التفتيش".
دخل الجنود البيت وبدأت حفلة التفتيش الدقيقة، وكان أحمد والقائد يتحدثان في المطبخ، ويسأله أسئلة عابرة عن اسم زوجته وبناته وتاريخ مولدهن، وبعد قليل استدعى زوجة أحمد وسألها إن كان في البيت مالٌ غير الذي لاحظ وجوده على الطاولة وأشار عليها أن تأخذه.
تقول حفصة" كان إنسانياً لأبعد الحدود فعندما لاحظ شعور أحمد بالبرد طلب مني أن أحضر له ملابس دافئة، ونصحني إن رأيت غرفة النوم مقلوبة رأساً على عقب فلا أبدي تعليقاً حتى لا يطلق الجنود النار عليّ، ولم أنبس ببنت شفة ليس خوفاً منهم ولكن لشدة خوفي على بناتي".
ما هي إلا لحظات حتى قال القائد مخاطباً زوجة أحمد" أحمد يعتبر معتقلاً لدينا وإن شاء الله لن يطول غيابه".
ودع أحمد زوجته وبناته وقبل جبين سارة وربت على شعر جنى وضحك لها حتى طلبت منه زوجته أن يقبلها ففعل، ومضى أحمد نحو مجهولٍ لا يعرفه هو ولا تفهمه زوجته.
تعاتب حفصة نفسها وتقول " لا أعلم ما حدث لي لمَ لم أستطع المدافعة عنه؟ رغم قوة شخصيتي أتراني شعرت بالخوف على بناتي".
أخذ الجنود أحمد إلى وراء البيت وفتشوه فقد علم أقاربه لاحقاً وعن طريق لوائح الاتهام أن من ضمن تهم أحمد محاولة أخيه الأسير عبد الرحمن - والذي اعتقل بتاريخ 1/5/2006 وحكم مدى الحياة- إرسال رسالة إليه في كبسولة دواء يشير عليه فيها أن يخطف جندياً ويخبره كيف يفعل ذلك بالتفصيل الممل.
بعد اعتقال أحمد أخبر أقاربه زوجتها أنهم أخذوه للمطعم أيضاً وفتشوه، ما هي إلا ساعتين حتى اتصل بهم الاحتلال وأخبرهم بأن أحمد موجودٌ الآن في معسكر حوارة.
تكمل حفصة والدموع تسبق الكلمات" كنت أذهب لغرفتي وأحمل صورته وأبكي، إن أحمد لم يؤذي أحداً قط، وحدث مرة أن زارني أخي نصر وذهب إلى مسجد القرية ليصلي وعندما عاد وجدني أصارع الذكريات بعد أن فرغ البيت من الناس، فحضنني وطلب من أقاربي أن لا يتركوني وحدي خوفاً من أن أجن".
تلقت العائلة لاحقاً خبر تحديد محكمة أحمد في سالم بتاريخ 10/4/2014 وذهبت زوجته لحضور المحكمة، كانت دقات قلبها تتسارع شوقاً وتبذل جهداً كبيراً في تحريك رجليها الثقيلتين ، كانت في سباق مع الزمن.
تروي" جلست على المقعد ودخل أحمد لم أتعرف عليه إلا من ملابسه فقد أصبح نحيلاً للغاية كما أن لحيته قد طالت كثيراً، جلس وأخذنا نتحدث بالإشارة كان يبتسم لي ويشير أنه بخير، بعد انتهاء المحكمة لم يدعوني أتحدث إليه لأنه ما زال قيد التحقيق".
تكررت محاكم أحمد وتكررت اللقاءات وتأجلت محكمته لغاية الآن ثماني مرات، حدث أن حضرت ابنته سارة محكمته مرة وتوقعت أمها أن تكون قد نسيته فقد كان عمرها لا يتجاوز السنة وثلاث شهور لدى اعتقاله لكنها لما رأته صاحت" ياي بابا" ، ولشدة الضجة التي أحدثتها وهي تبكي تريد الذهاب إليه طردوهم من المحكمة وتقاطعت نظرات أبيها الحادة إليها فور خروجهم من الباب".
تقول حفصة" كل مرة كنت أخرج من المحكمة وأنا أقول كيف أعود للبيت وأترك قلبي ورائي، وكان من حولي يواسيني فلا ألتفت لمواساتهم من شدة حزني".
تلاحقت أخبار أحمد عبر أسرى محررين وأخذ أهله يحدثونه عبر إذاعة صوت النجاح وبعد أربعة شهور حصلت زوجته على تصريح يتيح لها الزيارة لكن مواعيد الزيارة أخذت تتأجل تباعاً نظراً للحرب التي كانت قائمة في غزة والتي على إثرها منع أسرى حماس من الزيارة.
تروي حفصة " جهزت نفسي أنا وابنتي ذات يومٍ لزيارته وحضرت ملابسه ووضعت عليها العطر، لكن الصليب اتصل بي في آخر لحظة ليقول أن أسرى حماس ما زالوا ممنوعين من الزيارة إلى أجل مسمى".
تكررت لحظات الانتظار حتى جاء يوم 1/10/2014 حيث سمح بالزيارة ولم تصدق زوجته حتى وصلت المجمع الشرقي وركبت الباص، ورغم إذلال العبور و هوان التفتيش إلا أن همها الوحيد كان اللقاء وفعلاً دخلوا إلى غرفة الزيارات حيث الزجاج هو الفاصل الوحيد وسماعة تحول بينك وبين عزيز.
تأخر أحمد في الخروج وكان هناك سيدة أخرى حدث لابنها نفس الموقف ما طمئن قلب الزوجة الشغوف فقد قال الجندي أن أسرى حماس يخرجون متأخرين قليلاً، وفعلاً خرج أحمد وأخذ يشير لزوجته وتحدثوا طويلاً وتروي أن أجمل ما قاله" لم أعلم بأن لي زيارة إلا من ثلاثة أيام فقط وكنت قد حلمت بأن زيارتي ستكون في 1/10/2014 حتى أني لما أخبرت أصدقائي في السجن ضحكوا علي وها أنا".
ما زال أحمد معتقلاً وما زال شوق الزوجة عليه والأقارب ملتهباً، وما زالت جنى وسارة تنتظران ذلك اليوم الذي ستفتحان فيه الباب لأبيهما لتنشدان "بابا يا حنون".