صورة صلاح الدين الأيوبي هي صورة بطل مجاهد تمكن من استعادة مدينة القدس بعد حوالي 90 سنة من الاحتلال الصليبي، وانـتصر قبلها في معركة حطين الحاسمة، واستطاع توحيد البلدان الإسلامية من ليبيا وصولا إلى اليمن و الحجاز، ومرورا بمصر والشام والعراق.
وصلاح الدين بطل ذو سمت خاص، لأنه ربما الوحيد-خاصة في بلادنا- الذي صار بطلا شعبيا تتناقل بطولاته وأخبار صولاته وجولاته الأجيال، بعكس أبطال وقادة أفذاذ قبله أو بعده، ممن ظلت سيرتهم حبيسة الكتب والدراسات، أو ربما تخرج إلى العلن بمسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي أو وثائقي، وسرعان ما تتلاشى من الذاكرة الشعبية...لقد كان صلاح الدين وما زال بطلا يحظى بإجلال الكبار والصغار، والمتعلمين وغير المتعلمين، والمتدينين وغير المتدينين.
مكانة صلاح الدين الخاصة ارتبطت بمدينة القدس؛ خاصة وأن المدينة تعيش احتلالا قد يكون أسوأ في شراسته وإجرامه عن الاحتلال الذي خلصها منه صلاح الدين؛ حيث أن المسجد الأقصى كان اسطبلا لخيول الفرنجة، ولا تزال بعض حلقات ربط الخيول في المباني القديمة للمسجد شاهدة على الجريمة، واليوم يسعى الاحتلال الصهيوني لتحويل المسجد الأقصى-بعد هدمه- إلى معبد(هيكل) يهودي...فالأمة تنادي صلاح الدين بألم، وتحلم بصلاح جديد يعيد المسجد الأقصى ويخلصه من التهويد والاعتداءات...ولطالما اقترن اسم صلاح الدين بالخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- عند الحديث عن مدينة القدس حيث نـقول:فتحها عمر وحررها صلاح الدين،وهذه مرتبة عظيمة أخرى لقائد ومجاهد بينه وبين عمر بضعة قرون زمانيا، ولكن شرف تحرير القدس جمعهما.
ولكن هذه الصورة صارت محل تشكيك، أو تقليل من قيمة الإنجاز لهذا القائد، وقد بت أحس بأن هناك موجة تجتاحنا عنوانها التشكيك والتقليل من شأن كل الشخصيات التي كان لها بصمات مميزة في تاريخ الأمة، ومواقف لا تنسى في المنعطفات التاريخية الحاسمة؛ وحملة التشكيك هذه تأخذ شكل البحث الموضوعي تارة، والقراءة العلمية للتاريخ تارة أخرى، وتأتينا عبر دراسة أو بحث أو مداخلة تلفزيونية أو تدوينة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من هذا «الباحث» وذاك «الأكاديمي» وكأن ركوب هذه الموجة المشبوهة صار جواز السفر، للحصول على رتبة أو مدح الباحث العتيد، ونعته أو نعتها بصفة «المستنير/ة¬» وكأن الاستنارة هي باتخاذ موقف مسبق وانتقاء مواقف وأحداث معينة، وبعضها مشكوك في صحته للخروج بما يقدمه «المستنير» الذي لا يشق له غبار على أنه نتيجة تزيل عن أعيننا الغشاوة!
وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فإنني لا أقصد هنا الموقف الشيعي العام من صلاح الدين، فلهذا الموقف وضوحه وأبعاده، والتي لن يتقبلها جمهور الأمة إدراكا لخلفيتها المذهبية، وقد خرج من بين ظهراني الشيعة مفكر دونه ممن يحمل صفة المفكر طوابير طويلة، وهو علي شريعتي يمتدح صلاح الدين ويتمنى أنه موجود ليحرر القدس...إن من أقصدهم لا تحركهم نزعة مذهبية، ولكنهم باتوا يقذفون بأفكارهم التي صارت محل نـقاش يتفاعل بارتباك، ولا مانع من النقاش والتفاعل، بشرط اتباع المنطق السليم، وليس بهدف تقبيح كل ما هو جميل بدعوى ترك تـقديس الأشخاص، ومن قال أن محبة واحترام صلاح الدين تعني تقديسه وتنزيهه عن الخطأ؟ولكن هذا شيء والطعن في إنجازات الرجل والتهوين من شأنها، شيء آخر، وأن يعتب على الرجل بعد هذه القرون لأنه لم يقم بكذا وكذا، ويأتي هؤلاء وكأنهم قضاة على تاريخه، فتلك مهزلة كبيرة!
وبما أن الأمر يحتاج إلى دراسات مطولة وليس لمجرد مقالة، فقد أحببت وضع نـقاط وملاحظات عامة حول الشبهات المثارة، والتي قد يتساءل عنها حتى من كان نـقي السريرة، ويحب ويجل هذا القائد ولا يدري كيف يدافع عنه:-
1) روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق؛ وهذا الحديث أحاجج به من لم يغز ولم يحدث نفسه «بأن يحدث نفسه» لا بغزو ولا دعوة إلى غزو، إذ يكفي أن صلاح الدين غزا وعاش في خيم المقاتلين، وانتصر في كثير من المعارك، وقضى على صهوات الجياد أوقاتا قد تفوق ما قضاه على سطح الأرض جالسا أو نائما حوالي 16 سنة...فبعد أن تحاكوا هامشا ضيقا من سيرة الرجل الجهادية يمكنكم نـقده.
2) كيف يلام صلاح الدين على عدم إصلاح نظام سياسي قام على التوريث والغلبة، بدل الشورى والبيعة، وهو لم يكن له دور في صياغته ولا صناعته، وليس له القدرة على تغييره؟ ولو حاول ذلك لأثار حتى المقربين منه، كما أن هناك ما يشغله وهو ميدان الحرب والجهاد عن مثل هذا الترف الفكري، والمطارحات السياسية.
3) كيف كانت أحوال الأمة؟ألم تكن ممزقة مشتتة، جزء منها يتعامل مع الفرنجة علنا وجهارا نهارا، وجزء آخر قابل بوجودهم يهادنهم ويوادعهم، والصراعات بين الحواضر والممالك على أشدها، ألم تكن هناك خلافة عباسية في بغداد، وخلافة فاطمية في القاهرة، وكان الخليفة العباسي ضعيفا منصرفا إلى ملذاته، ومثله الخليفة الفاطمي في مصر؟وكيف لصلاح الدين وحده أن يصلح كل هذا ويواجه الفرنجة ويسترجع البلاد المحتلة منهم، وهو قد مات وعمره حوالي 57 عاما (توفي في سنة 589هـ/1193م)، علما أنه أنجز كثيرا خاصة في مصر.
4) ألم يكن جزء من علماء الأمة أو ما يسمى حاليا بالنخبة الثقافية منشغلا ومكبا على مسائل جدلية لا علاقة لها بالأخطار الكبيرة التي تـتهدد الأمة وحاضرها ومستقبلها؟وكل فريق معجب برأيه وعلى استعداد للتمرد على السلطان الناصر صلاح الدين فيما لو خالفه أو أيد مخالفه.
5) نعم اعتمد صلاح الدين في الإدارة والحكم كثيرا على أسرته من الإخوة والأبناء، ولكنه ليس مبتدعا لهذه الطريقة في الإدارة، وهو غير قادر على تغييرها، والمخاوف المترتبة على ابتداع أسلوب آخر في ظل الظروف الداخلية والخارجية كبيرة جدا، وليأت منتقدو السلطان ببديل عن هؤلاء في ظل أجواء الغدر والخيانة والدسائس التي سادت البلاد، وعلى كل فإن مقربين جدا من صلاح الدين أمثال القاضي ابن شداد والفاضل ليسوا من أسرته.
6) إن الفرنجة كانوا همجا متخلفين، لا حضارة ولا ثقافة عندهم، وكان القتال وقتها يقوم أساسا على السيوف والرماح والمنجنيقات، ولم يكن هناك صواريخ وطائرات مقاتلة وقنابل نووية قد يتحجج بها اليوم لتفوق الخصم، ومع ذلك بقي المسجد الأقصى منتهكا عشرات السنين، فالخلل إذن في الأمة والناس، وحسب صلاح الدين ما أمكنه الله من توحيد جزء كبير من أقطار المسلمين وما قيضه الله على يده من استرداد القدس.
7) أما لوم صلاح الدين على عدم تطهير كل الديار الشامية من الممالك الصليبية، وتوقيعه على صلح الرملة قبيل أن يتوفاه الله، فمردود على من يلوم، فملوك أوروبا أصابهم سعار الحرب بعد تطهير القدس من الفرنجة، وأرسلوا جيوشهم وأوباشهم المسكونين بأحقاد على «المحمديين الكفرة» ومع ذلك لم يتمكنوا من تحقيق مبتغاهم في الاقتراب من القدس، وارتكب أشهرهم وهو ريتشارد(قلب الأسد) مجازر بشعة ضد أسرى المسلمين...وفي الجيش المسلم بقيادة صلاح الدين، كان هناك العربي القيسي والعربي اليمني والتركماني و الكردي والحضري والبدوي، وتخيل ما قد يحصل بين هذه المكونات من خلافات، وما قد يحصل مع سكان المناطق التي يعسكر فيها الجيش من خصومات، ولهذا فإن القضاة قد تم تعيينهم من قبل السلطان صلاح الدين، لفض هذا النوع من النزاعات أو غيره، وأيضا لم تكن حواضر البلاد الإسلامية على قلب رجل واحد؛ فهناك من انشغلوا بالجدل والكلام حول العقائد والمذاهب والفلسفات، غير آبهين بما يتهدد الأمة من الحملة الصليبية الجديدة، وهناك الطامعون السفهاء بالغنائم والإقطاعيات، ومن قاتل وجاهد وضحى كان قد أنهك وبحاجة إلى الراحة أو ما يعرف باستراحة المقاتل، المقاتل الذي أصيب بالسأم الشديد لحروب طالت، وعموما فإن صلاح الدين لم يكن يميل إلى الصلح، ولم يتخذ القرار منفردا بل شاور أمراء جيوشه وأهل الرأي عنده، واستطلع آراء الناس؛ وهذه تحسب له لا عليه، إذ أنه لم يستبد برأيه المائل إلى مواصلة الحرب والجهاد.
إن لوم صلاح الدين بعد حوالي 900 سنة من قبل بعض من يقدمون أنفسهم كباحثين عن الحقيقة، وتوخي الموضوعية، لهو ظلم كبير، لأن هذا اللوم والنقد لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف التي عمل فيها هذا القائد العظيم.
والغريب أن اللائمين الناقدين لا يلومون الرجل فيما قد يبدو منطقيا فعلا وأعني كثرة تسامحه وتساهله وكرمه الزائد عن الحد مع الغزاة وأسراهم وعوائلهم، بل يلومونه فيما لا يلام فيه مثله!
يجب أن يبقى صلاح الدين في المخيال الشعبي، ولدى النخبة المثقفة المخلصة قائدا عظيما وبطلا مغوارا وفارسا شهما، وإن كانت له بعض الأخطاء والهفوات، فإن البحر لا يتعكر ولا يتغير لونه ببعض الفحم!