تقرير: صفاء عمر
قال تعالى: "وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا"، لكن الكثيرين في هذا المجتمع لا يلتمسون أقل معاني الرحمة لرد الدين والليالي التي سهرها عليهم أهاليهم وخصوصا أمهاتهم فتكون نهايتهم مأوى العجزة، والحاجة أم محمد في الستينات من العمر هي أحد هذه الأمثلة.
"سجن زوجي وأنا في السابعة عشر من العمر في الوقت الذي لم يمر على زواجنا السنة، وكنت في ذلك الوقت أحمل في أحشائي طفلاً، انتظرت عودة زوجي في بيت أهله حتى لا يحرمني أحد من طفلي، تحملت كل تذمرات أهله ومسؤوليتي عن بيت كامل واحتياجات طفل قادم، وحتى أوفر له متطلبات الحياة عملت في مشغل للخياطة، وكانت ظروف عمل صعبة على سيدة حامل تجلس لساعات طويلة أمام الماكنة وبأجر زهيد، واستمريت بالعمل حتى حان موعد ولادتي وفقدت عملي عندها لأن صاحب العمل لا يستطيع توقيف حال مشغله لمراعاة ظروفي"، هذا ما قالته الحاجة أم محمد عن الظروف التي عاشتها في بدايات حياتها الزوجية.
وأضافت: "في الأشهر الأولى من عمر محمد عملت في المزارع في قطف الثمار لأني أصبحت مسؤولة عن عائلة وفتح بي، كنت أدع طفلي نائماً في ساعات النهار الأولى وأخرج للعمل لعدة ساعات ثم أعود للمنزل للقيام بأعمال المنزل وواجبات الطفل قبل استيقاظه، ثم أعود للعمل ثانية بعد العصر حتى قبل غروب الشمس، وتنقلت من موسم لموسم زراعي حتى قضيت عامين على هذا الحال خرج بعدها زوجي من السجن، لكن سرعان ما علم بأنني تحملت مسؤولية البيت وعملت بيدي ولم أعد لبيت أهلي حتى كافأني بالطلاق لأنه لا يحب عمل المرأة وخروجها من المنزل، وكان علي أن أبقى في بيت أهلي حتى عودته حسب قوله".
وعادت أم محمد في ذلك الوقت مطلقة لبيت أهلها الذين بدورهم لم يستقبلوها لأنه كان عليها من البداية ترك زوجها والعودة إليهم، قررت في ذلك الوقت تحمل مسؤوليتها ومسؤولية طفلها واستأجرت بيتاً صغيرا متهالكا مكونا من غرفة واحدة ومنافع، لكنه هذا ما قدرت عليه في ذلك الوقت، وبدأت حياتها المستقلة مع طفلها الذي كبر وكبرت أحلامها معه وقررت أن تجعل منه أفضل رجل في الحي.
وتتابع أم محمد رواية قصتها وتقول: "تركت العمل في الحقول والمزارع، وعدت للعمل في مجال الخياطة وبدأت بتحويش المال لشراء ماكنة خاصة بي حتى أعمل بها وأوفر لأبني مستقبلاً جيداً، وفعلاً استطعت شراء الماكنة خلال عام، وبدأت على مر السنين بترميم المنزل وتوسيعه وإصلاحه ثم اشتريته، في وقتها كبر ابني وقررت أن أعلمه بأفضل الجامعات".
بدأت أم محمد على مر أعوام ثلاثة بتحويش المال حتى أنهى ابنها مدرسته وقرر بعدها الدراسة في الأردن، فكانت ترسل له المال باستمرار وتحرص على أن لا ينقصه شيء، وبعد أن أنهى الجامعة قرر أن يكمل دراسته العليا في إسبانيا، وتستذكر تلك اللحظات قائلة: "مع أن قلبي كان يحترق شوقاً له لكنني لم أشأ أن أقف في طريق مستقبله وحلمي بأن يكون أفضل الرجال، وعملت جاهدة على توفير كل مصاريفه وإرسالها له، وما كان يطلب مبلغا من المال حتى يصله ضعفه، خفت أن يكون محتاجاً لأكثر مما يطلب".
بعد غربة دامت عشر سنوات بين الأردن وإسبانيا عاد محمد كما حلمت أمه بأعلى الشهادات، لكنه عاد إلى إسبانيا ليتزوج بإحدى الفتيات هناك فتزوج وعاد للوطن بشهادته وأسرته الجديدة، لكن زوجته لم تستطع التأقلم والعيش مع أمه فبدأ بحصرها بزاوية صغيرة من منزلها الذي وسعته، ومع إنجاب زوجته للطفل الأول بدأت بالتذمر من صوت الماكنة التي تزعجها وتمنع طفلها من النوم.
باعت أم محمد مصدر رزقها نزولا عند رغبة ابنها وزوجته، وعاشت معهم في زاوية صغيرة من منزلها حتى لا تزعجهم وحتى يتربى الأبناء على العادات التي ترسمها لهم أمهم فقط ولا يتأثرون بأي شيء محيط، وهي عوملت في هذه الفترة على أنها جزء من هذه "الأشياء" المحيطة.
وتتابع أم محمد أن ابنها وزوجته قررا العودة والعيش في إسبانيا مع أبنائهم لتوفير حياة أفضل للأبناء ولهم، فقاموا ببيع المنزل ووضعاها في مأوى العجزة كحل مؤقت لحين ترتيب أوراقها لأخذها للعيش معهم هناك.
مرت سنوات وما زالت أم محمد تنتظر ابنها حتى يعود ويأخذها معه، لكنه لم يعد، ورفضت الحاجة أم محمد ذكر اسمها الصريح واسم أبنها في التقرير حتى لا يتأثر ابنها وسمعته أمام الناس، لأن الكل يعلم أنها معه في اسبانيا، وختمت قولها كما كل أم بقول "الله يرضى عليه".