يسألني الكثير من الاخوة والاحباب عن تجربة السجن الأخيرة وظروف الاعتقال الصعبة التي مررتا بها وهي غير مسبوقة وكيف كنا نقضي الاوقات، وكيف يعيش الاسير أيامه وكيف هي تجربة الأسر بشكل عام؟
طويلة نوعاً ما ولكنها تستحق القراءة لعشرات المرات وليس مرة واحدة، اقرأوها كاملة ولن تندموا.
بداية وتحدثاً بنعمة الله أنه كان من فضل الله عليّ خلال سنوات عملي الطويلة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أن زرت العديد من الدول الاوروبية والعربية ودخلت ارقى الفنادق والاماكن السياحية والترفيهية وزرت اغلب الاماكن السياحية في تلك الدول، وبالمقابل دخلت سجون وزنازين الاحتلال والسلطة فلم اجد فرق كبير بالامور المعيشية والحياتية بين المشهدين حقيقة وصدقاً، ويحضرني في هذا المقام مقولة إبراهيم بن أدهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"
ومن فضل الله عليّ في احدى تجارب السجن الأخيرة أن دلني الى تفسير الاية الثانية من سورة فاطر التي تجدون تفسيرها في السطور التالية للاستاذ سيد قطب رحمه الله يتحدث بشيء مشابه عن هذه التجارب وادعوكم لقراءتها مرات عديدة ففي كل ستجدون معنى جديد وهام، ولا أبالغ ان قلت اني قرأت تفسيرها أكثر من مئة مرة وكل مرة أجد معنى جديد وفهم عميق للآيات والأحداث ، اترككم مع التفسير الرائع لسيد قطب رحمه الله، وهذا ممكن أن يساعدنا أن نفهم شيئا بسيطا كيف يستمد الغزيين صبرهم وصمودهم وثباتهم وإصرارهم بعد كل ما حل بهم خلال الأشهر الثقال الماضية.
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم ) . .
**ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد، و تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح . ويجدها من يفتحها الله يجدها في نفسه ، وفي مشاعره ؛ ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان ، وكيفما كان .
وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة . وما من محنة - تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينام الإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد . ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر . ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام .
**ولا ضيق مع رحمة الله . لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب . ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء .
**المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان و الرزق و الذرية و الصحة و القوة و السلطان و الجاه . . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله .
**ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله ! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك . ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة . ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة . وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة . والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها . وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً . ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) .
**ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال، وجدها إبراهيم - عليه السلام - في النار . ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجب كما وجدها في السجن . ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث . ووجدها موسى - عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه . ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور . فقال بعضهم لبعض : ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ) . ووجدها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار ، ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها . منقطعاً عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في رحمة ، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب .
ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . ومن ثم فلا مخافة من أحد . ولا رجاء في أحد . ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء . والأمر مباشرة إلى الله . . ( وهو العزيز الحكيم ) . .
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ) . .
**وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه ، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام .
( وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) .
فلا رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه . فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله .
أية طمأنينة ? وأي قرار ? وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير ? !
آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة ؛ وتنشىء في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة ؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها . ذهبت أم جاءت . كبرت أم صغرت . جلت أم هانت . كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء !
صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات . ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ، ولا يمسكونها حين يفتحها . . ( وهو العزيز الحكيم ) . .
وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام . الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ، تنشىء في الأرض ما شاء الله أن ينشىء من عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، ونظم وأوضاع . وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام . الفئة التي كانت قدراً من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات . ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن ، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها . . وكفى . . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن ، وتعيش في واقعها بها ، ولها . .
**ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية . .
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة . واجهتني في لحظة جفاف روحي ، وشقاء نفسي ، وضيق بضائقة ، وعسر من مشقة . . واجهتني في ذات اللحظة . ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها . وأن تسكب حقيقتها في روحي ؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني . حقيقة أذوقها لا معنى أدركه . فكانت رحمة بذاتها . تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا . وقد قرأتها من قبل كثيراً . ومررت بها من قبل كثيراً . ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها ، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول : هأنذا . . نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها . فانظر كيف تكون !
إنه لم يتغير شيء مما حولي . ولكن لقد تغير كل شيء في حسي ! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية . نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها ، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة . وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها . وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي . وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق . وأنا في مكاني ! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته . آية من القرآن تفتح كوة من النور . وتفجر ينبوعاً من الرحمة . وتشق طريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان . اللهم حمداً لك.