الرئيسية / مقالات
النضال من أجل الحقيقة في العصر الرقمي
تاريخ النشر: الثلاثاء 10/12/2024 10:16
النضال من أجل الحقيقة في العصر الرقمي
النضال من أجل الحقيقة في العصر الرقمي

‎ ‎
النضال من أجل الحقيقة في العصر الرقمي

ما يقدمه العصر الذي نعيشه اليوم من تطور؛ لا يمكن حصره في ما يتيحه للإنسانية من مزايا وإمكانات جديدة فحسب؛ بل ينبغي الانتباه إلى ما يحمله في طياته من التحديات الخطيرة المختلفة. ففي هذا العصر، بات من الصعوبة بمكان مواكبة سرعة انتاج المعلومة وانتشار تداولها. وبات مناخ عالم الاتصال يشهد تحولا جذريا عميقا. ذلك أن عملية التحول هذه بقدر ما تنطوي عليه من مزايا تقدم إيجابي؛ إلا انها كذلك تحمل معها امتحانات أخلاقية وثقافية وإنسانية بالغة الصعوبة. ففي هذا الوضع الجديد الذي يعرفة التطور التكنلوجي السريع والمليء بالتحديات وحيث نرى الذكاء الاصطناعي والاستعمال الكثيف اللوغاريتمات (الخوارزميات)؛ مما صار جزء لا يتجزء من حياتنا اليومية؛ لم يعد مجرد وسيلة نستعملها فحسب بل تعدى ذلك لكي يصبح جهة فاعلة ولاعبا اساسيا في إعادة تشكيل توازن القوى. ويوما بعد يوم أصبح الخط الرفيع الفاصل بين الحقيقة والكذب أكثر هشاشة وغموضا. وباتت البشرية تجد نفسها وجها لوجه أمام مجموعة متداخلة من الشكوك والالتباسات فيما يصح لنا أن نطلق عليه"أزمة الحقيقة". وقد بات لزاما علينا لمواجهة هذه التحديات الكبيرة وللتغلب على ما تطرحه من تعقيدات أن نقوم بتطوير استراتيجيات اتصال محكمة وفعالة.
إذ ينبغي أن تنصب أولويتنا على الاهتمام بالتحليل الدقيق لما يطرحه هذا التحول الذي عرفه فضاء عالم الاتصال مع كل هذا التطور التكنولوجي الهائل من مخاطر وإمكانات حتى نستطيع التحكم فيه وحتى نمكن المجتمع من الاستفادة الجيدة مما يقدمه. حيث ساهمت التطورات المتسارعة الأخيرة على تغيير عادات المجتمعات في مجال الاتصال، وجعلت من الوسائط الرقمية جزء مهما داخل منظومة حياتنا. ويتجلى الجانب الأكثر لفتًا للانتباه في هذا التحول في تأثير الذكاء الاصطناعي على عمليات الاتصال.‏
تقوم أدوات الذكاء الاصطناعي بإحداث تحولات سريعة وهائلة في عالمنا وعلى جميع القطاعات والأصعدة. حيث بات هذا الذكاء الاصطناعي يواجهنا اليوم كقوة ‏‏هائلة تتحكم في تغيير قواعد اللعبة في مجال الاتصال الاستراتيجي. والإمكانات الهائلة التي يقدمها في مجالات من قبيل تحليل البيانات وإنتاج المحتوى وإدارة الأزمات... بسرعة فائقة وكفاءة عالية بلغت حدا لم نكن نحلم بامكانية حصوله وحتى وقت قريب جدا. إمكانات أصبحت اليوم في متناول الجميع بكل سهولة. فمنذ وقت قريب بات بإمكان الجميع أن يتوصل إلى إنجاز أمور لم يكن يتخيل تحقيقها إلا في سيناريوهات أفلام الخيال العلمي.
غير أنه من المؤسف القول أن هذا التقدم الإيجابي للتكنولوجيا لديه قابلية التحول إلى سلاح رقمي فتاك متى ما لم يتم استخدامه بنوايا حسنة أولتحقيدق أهداف سليمة. ذلك أن الذكاء الاصطناعي الذي يملك القدرة على إنتاج محتوى مزيف عميق Deep-fake والقادر على إرباك المتلقي وجعله غير قادر البتة على التمييز بين المحتوى المزيف والمحتوى الحقيقي الأصلي. مما يتسبب في هدم الثقة داخل المجتمع ويؤدي إلى تفاقم "أزمة الحقيقة". الأمر الذي يتسبب بشكل كبير في استفحال ظاهرة التضليل الإعلامي وتلفيق الأخبار والانتهاكات اللا أخلاقية التي يكون لها أثر مدمر على مصداقية وقيمة ميدان الاتصال. ففي عالم باتت تهيمن عليه اللوغارتمات (الخوارزميات) ؛ وأصبح الافراد بمثابة سجناء داخل غرف الصدى المغلقة، وازدادت حدة الاستقطاب داخل المجتمع وحل التضليل الإعلامي والتلفيق محل الحقيقة الصريحة. وضع خطير بات يدفعنا مجددا إلى ضرورة إعادة النظر في الذكاء الاصطناعي ووجوب التحكم فيه وتغيير مساره إلى ما يتماشى مع المبادئ السامية والذوق العام. حيث بات يطرح على الساحة العديد ضرورة ايجاد بعض المسائل البالغة الخطورة من قبيل المسائلة والمحاسبة والشفافية ومسايرة الاخلاق والذوق العام عند اسخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرقمي.
‏فقد شهدنا جميعا خلال الأحداث المأساوية التي شهدتها غزة مؤخرا؛ كيف تم استخدام التضليل الإعلامي المدعوم بالذكاء الاصطناعي في عمليات تضليل الرأي العام العالمي. وبينما انتشرت المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة البرق عن طريق الخوارزميات، ‏‏تم حظر الوصول إلى المعلومات الصحيحة الدقيقة. ونتيجة لذلك، أصبح من الصعب إطلاع الرأي العام الدولي بالمعلومات الحقيقية عن تطورات الأحداث والانتهاكات التي نالت ‏‏حقوق الإنسان هناك.‏
طبعا، لا يمكننا بحال من الأحوال إنكاراو تجاهل مدى ما توفره إمكانتات التكنولوجيا الرقمية من فوائد عظيمة للبشرية. لكن في المقابل؛ ليس بالمقدورإنكار ‏‏وجود من يستغل هذه الإمكانات لتحقيق أغراض خبيثة وأن ذلك يشكل تهديدا خطيرا للأمن والاستقرار العالميين. وفي مواجهة هذه المظاهر المدمرة، ‏‏عملتنا في تركيا بالاعتمادنا على آليات الاتصال الاستراتيجي على بذل جهود مكثفة لمنع المغالطات الإعلامية وتدفق الاخبار الخاطئة والتضليل الاعلامي والحفاظ على سلامة الحقيقة وضمان وصولها إلى الرأي العام العالمي على الوجه الدقيق. فقد كان من ضمن أولوياتنا الرفع من مستوى الوعي الجمعي بإزاء خطورة التهديدات الرقمية وتقوية جهود محو الأمية في المجال الاعلامي حيث قمنا بجهود جبارة ورائدة في مجال مواجهة العديد من التهديدات والسلبيات المسجلة في هذا المجال؛ إن أهمية التعاون العالمي أصبحت ضرورة ملحة تتزايد يوما بعد يوم لأدارة التحول الشامل في المجال الرقمي. ونحن في تركيا نواصل أنشطتنا الداعمة للتعاون الدولي في معركة نصرة الحقيقة.
ففي إطار تصور "قرن تركيا" الذي دعى اليه رئيسنا السيد رجب طيب أردوغان ، فقد اتخذنا في تركيا، موقفا استراتيجيا ازاء تداعيات عصر التحول هذا. حيث سعينا إلى التركيز على تقديم التكنولوجيا لتكون في خدمة الإنسانية، وإعطاء الأولوية للمنفعة الاجتماعية، ونهج الاتصال الذي يرتكز على الحقيقة. ففي هذه المرحلة الجديدة، نرى أن التواصل الاستراتيجي هو المفتاح الحقيقي لإدارة حالات عدم اليقين وبناء الثقة. فقد بتنا في تركيا نلعب دورًا نشطًا في هذا المجال على المستويين الوطني والدولي. من ذلك الجهود الحثيثة في مجال مكافحة التضليل الإعلامي ، التي نقوم منذ فترة طويلة في رئاسة دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية التركية ، حيث نقف بشكل حازم في وجه تداعيات "أزمة الحقيقة" ونعمل على ايجاد الحلول الفعالة في هذا الصدد. فنحن نعتبر الأتصال في أثناء الأزمات أحد التدابير والاجراءات الأكثر حيوية صمن عمليات الاتصال الاستراتيجي المدعومة بالذكاء الاصطناعي. حيث إن الوصول إلى المعلومات الدقيقة بسرعة وتبلغها إلى الجمهور بشكل فعال يلعب دورًا حاسما في إنقاذ الحياة أثناء الأزمات.

في هذا الظرف الزمني الذي نحس فيه عن كثب برياح التحول في العصر الرقمي، يعد منتدى القيادة الاستراتجية "ستراتكوم STRATCOM: المنتدى الدولي للاتصال الاستراتيجي" الذي تنظمه رئاستنا في الفترة ما بين 13- 14 ديسمبر/ كانون الأول 2024 بحق محفلا رائدا سيتم خلاله مناقشة كل هذه الإمكانات والمخاطر بكل عمق وعلى المستوى الدولي. فهذا المنتدى الذي سيجمع على صعيد واحد ممثلين عن القطاع العام ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني والقطاع الخاص من جميع أنحاء العالم. يُعد مركزاً عالميا هاما لتبادل وتناغم الأفكار التي ترمي إلى توجيه مستقبل نظام الاتصال الاستراتيجي.

ومع ذلك، فإنه لا ينبغي النظر إلى منتدى "ستراتكوم STRATCOM: المنتدى الدولي للاتصال الاستراتيجي"" باعتباره مجرد منتدى دولي فحسب . بل ينبغي النظر إليه باعتباره دعوة عالمية للتمكن من بناء إرادة دولية مشتركة لمواجهة تحديات العصر الرقمي وأزمة الحقيقة. وينبغي أن نشعر بمدى أهمية هذه الدعوة العالمية في إطار المسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقنا في سياق ما أحدثه الذكاء الاصطناعي والاتصال الاستراتيجي من نهضة عظيمة. فنحن في تركيا ندرك أنه من أجل المستقبل البشري المشترك الزاهر ، يجب أن نعمل انطلاقا من قناعات لا تقبل المساومة في مبادئ الحقيقة والضمير والعدل. وعلى ضوء هذا الفهم، ستستمر تركيا في أن تكون نموذجاً رائدا ليس في منطقتها فحسب ولكن على المستوى العالمي كذلك.

البروفيسور د. فخر الدين ألتون
رئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية التركية

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017