الرئيسية / الأخبار / حق العودة
أربعون عاماً على مجزرة تل الزعتر: معجزة نجاة الأطباء!
تاريخ النشر: الأربعاء 17/08/2016 14:36
أربعون عاماً على مجزرة تل الزعتر: معجزة نجاة الأطباء!
أربعون عاماً على مجزرة تل الزعتر: معجزة نجاة الأطباء!

بسام الكعبي

صباح الثاني عشر من آب 1976، قرر الدكتور يوسف عراقي الذهاب إلى عيادة المخيم كالمعتاد، وحال دون ذلك  قصف عنيف استهدف البيوت المجاورة. وصل ممرض وأخبره أن ميليشيا الجبهة الانعزالية اقتحمت العيادة، ونفذت عملية قتل جماعي بحق الجرحى والمدنيين الذين لجأوا اليه هروباً من القصف المدفعي الكثيف. اتجه عراقي إلى مركز الطوارئ، وشهد حول المبنى المتواضع معركة قاسية بين مقاتلي المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية من جهة ومسلحي الجبهة الانعزالية من جهة أخرى، في محاولة يائسة لحماية الجرحى والنساء والأطفال والمسنين. اجتاح مسلحو الجبهة اليمينية الفاشية بأعداد كبيرة مركز الطوارئ قادمين من محور الدكوانة الشمالي، عندما حاول عراقي مع زميله الدكتور عبد العزيز اللبدي والممرضين ترتيب عملية نقل الجرحى إلى بناية مجاورة. رفضتْ المليشيات المسلحة ذلك وتجاهلت حقوق الجرحى ونداء الاستغاثة، وطلبتْ منهم مغادرة العيادة وخروج الطاقم الطبي عبر ممر إجباري؛ حيث ينتظرهم الصليب الأحمر الدولي! وكان خروجاً محكماً إلى مصيدة موت مريع وفق وصف الدكتور عراقي.

                                        معجزة النجاة!

سار يوسف عراقي منذ التاسعة صباحاً برفقة زوجين طبيبين سويديين يتبعهم طاقم التمريض حاملا الجرحى على ألواح خشبية والمتاح من أدوات بسيطة. أصدر مسلح فاشي في أول حاجز عسكري  أوامره بوقوف الجميع على الحائط استعداداً لاطلاق النار عليهم. انشغل المقاتلون بأحاديث جانبية، وطلب عراقي من الممرضين التحرك بسرعة مع الجرحى والاختفاء بين جموع الأهالي الخارجين من تل الزعتر، وخلع الرداء الأبيض وإشارة الهلال والصليب الأحمر، لأنه  أدرك أن أمراً غامضاً يدبر للطاقم الطبي. تقدم عراقي في الممر الإجباري تحت طلقات نارية فوق رؤوس الفارين، واصطدم بمسلحي الحاجز العسكري الثاني؛ الذين قرروا تصفية الطاقم الطبي فوراً! فجأة تقدم مسلح نحو الدكتور عراقي ونادى عليه بإسمه، واستعاد معه وقائع العملية الجراحية الخطيرة التي أجراها له وأنقذت حياته، وقد وصل الجريح الكتائبي إلى عيادة المخيم قبل بدء الحصار على تل الزعتر مطلع 1976.

 جرت مشاجرة بين عناصر الحاجز على قرار التصفية الجسدية، وحينها وصل ملازم من جيش التحرير الفلسطيني وكان يقيم في المخيم، عانق عراقي، وقدم نفسه لمسلحي الحاجز بأنه ضابط سوري وحسم الموقف، وحاول الملازم جهده  إنقاذ الممرضين والجرحى لكن دون جدوى. شاهد عراقي عملية حجز الطاقم الطبي في طابور، وتلقى أفراد الطاقم أوامر من مليشيا الحاجز العسكري بالسير إلى الأمام، قبل أن يتم نقله برفقة الطبيبين السويديين خلف بناية مجاورة. شاهد عراقي أحد القتلة يطلق  صليات رصاص من بندقية، وسمع  عقبها أصوات صيحات الضحايا. استعاد صورة فاشي ضخم الجثة، يحمل سكيناً كبيرة تقطر دماً: كل ثلاث دقائق يعود إلى مدخل البناية ويمسح سكينه الملطخة بالدماء بقميص مدني يجلس مرتعداً على درج المبنى!

 وصل بعد ساعة من الزمن أحد مسؤولي أمن المليشيات المسلحة، وقاده برفقة الطبيبين السويديين والضابط السوري إلى خارج حدود تل الزعتر في أطول طريق قطعها في حياته: شاهد مئات الجثث الطاهرة للأطفال والنساء والشيوخ على جانبي ممر إجباري لا يتجاوز 300 متر. في نهاية الطريق القاتلة نقل بسيارة إلى مكتب أمين الجميّل مسؤول حزب الكتائب، وقد خاطبه الأخير بسخرية: لستُ فاشياً. أنظر يدي نظيفة غير ملطخة بالدماء"! طلب عراقي من مندوب الصليب الأحمر البحث عن زميله الدكتور اللبدي وطاقم الممرضين، وتحركتْ سيارة الصليب الأحمر إلى منطقة الدكوانة لانقاذ الطاقم الطبي. أثناء فترة البحث عن اللبدي،  تعرض عراقي للتحقيق والاستجواب في مكتب الجميّل، وبدا واضحاً من الأسئلة التي نشرها الدكتور في شهادته حجم كراهية الكتائب العنصرية لمقاومة الشعب الفلسطيني والحركة الوطنية اللبنانية. في ساعات العصر وصل اللبدي سالماً، وتعرض لنفس أسئلة التحقيق وطريقة الاستجواب.

شاهد من شرفة مكتب الجميّل مظاهر ابتهاج المليشيات الانعزالية "بالانتصار"! ودقق بنزعة سادية تتلذذ بالذبح والقتل والسحل! وصل المصري حسن صبري الخولي وتفاوض طويلا مع أمين الجميّل لاطلاق سراح الأطباء. في السادسة مساء استقل الأطباء سيارة الخولي وقادها الجميّل، واجتازت اثني عشر حاجزاً عسكرياً في المنطقة الشرقية شكلتْ مصيدة لقتل الناجين من الطوق العسكري حول تل الزعتر. وقفتْ السيارة في منطقة المتحف على خط التماس بين بيروت الشرقية والغربية ترجل منها عراقي، وتابع سيره برفقة الأطباء الثلاثة باتجاه بيروت الغربية، حيث كان ينتظرهم مندوب الصليب الأحمر الدولي.

ذكريات دامية!

كتبت الصحافية هبة الجنداوي من بيروت تقريراً إخبارياً بمناسبة السنوية الأربعين للمذبحة نشرته شبكة العودة الأسبوع الماضي؛ تناولت فيه ذكريات عدد من سكان تل الزعتر: بعد أسابيع على المجزرة، تقدم وسطاء من الكتائب والأحرار وبعض الجنود السوريين؛ بعرض لنقل جثامين شهداء من تل الزعتر لدفنها في مقابر أخرى خارج المخيم!

علمت أم وائل الأسعد بإمكانية استخراج جثامين الشهداء من أرض المخيم ودفنها في مقابر أخرى؛ بعد أن كان ذلك حلماً صعب المنال، قالت: "ذهبتُ برفقة أم محمد الدوخي إلى القوات السورية المتمركزة قرب تل الزعتر المعزول، وأخبرتهم بقراري استخراج جثمان زوجي. طلبوا مبلغاً من المال نظير تأمين وصولنا. دفعتُ مبلغاً وسمحوا لي بالدخول إلى المخيم. بدا الدّمار سيّد المكان، وجدتُ بيت العائلة الذي تزوجت وأنجبت فيه، وقضيتُ أيام الحصار الجائر محتميةً تحت سقفه محترقاً بالكامل! فاحترق  ما تبقى من قلبي"!

عثرتْ أم وائل على مساعدة  لاستخراج الجثمان. وحينها وصلتْ عصابة من الكتائب وسألتْ: هل تريدين استخراج جثة زوجك أم استخراج المال والذهب؟ ردتْ: انتظروا وستشاهدون بأعينكم! وفعلاً حينما بدأتُ باستخراج جثمان زوجي غادر أفراد العصابة المكان.

حملتْ أم وائل الجثمان كأنها تحمل كنزاً ثميناً، وقالت: كم تألّمنا وذقنا المرّ منذ بدء مسلسل النكبة، هل يُعقل دفع مال للحصول على جثامين الأحباء وإعادة دفنها وقد قضوا بغير ذنبٍ اقترفوه.

استخرجتْ بعض العائلات جثامين أقربائها من ساحات تل الزعتر، ودفنتها في مقابر قريبة من مكان اللجوء الجديد! وهناك مقبرة جماعية لشهداء المجزرة في مقبرة شهداء مجزرة شاتيلا: شهداء مجزرة بجوار شهداء مجزرة؛ ليظل الدليل قائماً على الدم الذي أغرق لاجئي مخيم تل الزعتر المنكوب، والقتل الأعمى الذي استهدف مخيمي صبرا وشاتيلا أواسط أيلول 1982.

 

أربعة آلاف ضحية!

استشهد في تل الزعتر أكثر من أربعة آلاف لاجئ وفقير، معظمهم من الأطفال والنساء والمسنين، وتوفي عدد منهم عطشاً في أسبوعي الحصار الأخيرين، بعد أن أصبح مصدر الماء الوحيد المتبقي لسكان المخيم تحت مرمى نيران المليشيات. وأعلن المركز الفلسطيني للإعلام في بيروت أن حصيلة المذبحة بلغت 4280 شهيداً وآلاف الجرحى المدنيين. وأفاد محمد شمس نائب رئيس رابطة مخيم تل الزعتر في لبنان أن عدد المفقودين بلغ حتى اليوم، بعد أربعين عاماً على المجزرة، ألفي مفقود لا زال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة.

 سقط المخيم، وشرعت  جرافات الكتائب فوراً بتدمير المساكن المهدمة وتسويتها بالأرض، وتم تشريد ما تبقى من لاجئين إلى البقاع وبعلبك ثم الدامور الساحلية قرب بيروت، وهجروا منها لاحقاً للاقامة في مساكن من صفيح بجوار مخيم البداوي قرب طرابلس شمال لبنان، ووصلتْ أعداد منهم بالتدريج منذ آب 1976 وحتى أواسط الثمانينات إلى العاصمة الألمانية برلين.

بعد تدمير تل الزعتر، بدأت معاناة الناجين منه: تهجّر والد أبو أيمن عبد الله ووالدته وأشقاؤه وشقيقاته إلى منطقة السفارات في بيروت الغربية، ثم انتقلتْ إلى منطقة الدامور. تعاون أبو أيمن مع مؤسسة (صامد) بإقامة مصنع دباغة وجلود في الدامور، وعثر نحو خمسين عاملا من مهجري الزعتر على عمل لهم في المصنع، لكن الغزو الإسرائيلي للبنان مطلع حزيران 1982 دمّر بلدة الدامور فوق المصنع! انتقلت العائلة مع بعض لاجئي الدامور إلى مخيم شاتيلا ونجت عائلة عبد الله من مجزرة جديدة أواسط أيلول 1982، لكن والده الذي نجا من المجازر المتعددة توفي وزوجته تباعاً عقب الغزو الإسرائيلي، وعندها قرر أبو أيمن الهجرة إلى ألمانيا.

وصل برلين مع بعض أفراد عائلته أواخر 1982، وحصل على إقامة دائمة سنة 1989 ثم نال الجنسية الألمانية سنة 1994، وقرر مباشرة العودة إلى لبنان وزيارة تل الزعتر: شاهد بقايا ركام المخيم، وقد نالت جرافات الكتائب الفاشية من صفيحه المتواضع، ومسحته بالكامل لعلها تثأر من مقاومة باسلة. اعترف أبو أيمن عبد الله في مكالمة هاتفية حادثته فيها مطولاً: "لن يصدق أحد أن هذه البقعة الصغيرة كانت تضم مخيماً فلسطينياً يسكنه 30 ألف نسمة نصفهم تقريباً لاجئين والباقي من فقراء لبنان وسوريا"!

سقط تل الزعتر، لكنه سيبقى رمزاً أسطورياً للصمود اللبناني الفلسطيني، وسيظل حاضراً في الذاكرة حتى ينال شعب فلسطين حقه في الاستقلال، وتنال سارة عبد الله الزعتر حقها في البقاء فوق تراب وطنها بعيداً عن قسوة المنفى.

 يواصل أهالي تل الزعتر في لبنان والمنفى التذكير سنوياً بوقائع المجازر المروعة التي نفذها اليمين الفاشي بغطاء النظام السوري: عقدت رابطة تل الزعتر في برلين مهرجاناً جماهيرياً حاشداً في العاصمة الألمانية يوم الثاني عشر من آب الجاري، بمشاركة الممرضة السويدية ايفا شتال، والطبيبين الفلسطينيين يوسف عراقي المقيم في النرويج، وعبد العزيز اللبدي المقيم في ألمانيا؛ وبحضور مجموعة من الضحايا وعدد من ذوي العائلات التي فقدت صغارها أثناء الحصار والمجازر، حيث استفادت بعض المؤسسات الطائفية مالياً من مشروع تسريب بعض الرضع والأطفال لعائلات أجنبية بغرض التبني!

حفظ المهرجان ذاكرة فلسطينية وثقت بموضوعية لجرائم القتل الأعمى المأجور، ودان التطهير العرقي في فلسطين، على أمل أن تنهض لجنة متخصصة لمتابعة تدوين شهادات جديدة وتفصيلية للناجين من المجزرة، ونشرها وتوزيعها بكثافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة على نطاق واسع؛ لعل وقائع الشهود تلتقط تفاصيل المجزرة المروعة في زعتر مقاتل وتل مقاوم، وتعبد الطريق لتدوين المجازر التي استهدفت شعب فلسطين، وبخاصة فقرائه، منذ مائة عام وأكثر، من أجل تجديد ذاكرة الأجيال تحت شعار: لن ننسى، ولن نسامح، ولن نغفر لأحد؛ مهما تعددت طبعة القاتل، وتغيّرت صورة الجلاد، وستبقى الأجيال حريصة على بناء الروايات الشفوية وقد غابت بفعل صمت الضحية، وتحرص على جمر النشيد في قصيدة محمود درويش، ليظل أحمد الزعتر  ينبض في مخيم "ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين"، فيما تردد إرادة المنتصر بصوت مرتفع: أنا أحمد العربي فليأتِ الحصار. جسدي هو الأسوار فليأتِ الحصار. وأنا حدود النار فليأتِ الحصار. وأنا أحاصركم أحاصركم. وصدري باب كل الناس فليأتِ الحصار. (انتهى)

المصادر

-       مقابلة عبر الهاتف مع الشاهد محمد إبراهيم عبد الله (أبو أيمن) من مكان إقامته في المنفى. العاصمة الألمانية برلين. تموز 2016

-       إيفا شتال، (تل الزعتر قصة البطولة والمأساة). الصحفي اندريه هاسليوم، 42 صفحة من القطع الصغير. منشورات الناصرة  آب1977           

-       أسعد أبو خليل، مقالة ( تل الزعتر: حتى لا ننسى ولا نغفر ). جريدة الأخبار اللبنانية، 22  آب 2015

-       الجزيرة نت. يوميات حصار المخيم، ريبورتاج عن (مارلين الفرنسية ابنة تل الزعتر)

-       شهادة الدكتور يوسف عراقي، بتصرف. منشورة في عدة مواقع إليكترونية

-        الصحافية هبة الجنداوي. تقرير إخباري. شبكة العودة، بيروت 10 آب 2016

-       عبير حيدر، ريبورتاج. جريدة المدن الالكترونية. بيروت، 3 آب 2013

 

 

 

 
 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 
 
 

 

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017