الرئيسية / ثقافة وأدب
كريم دباح: وظيفة الفن التشكيلي الإنحياز إلى الفقراء
تاريخ النشر: الأربعاء 07/09/2016 08:52
كريم دباح: وظيفة الفن التشكيلي الإنحياز إلى الفقراء
كريم دباح: وظيفة الفن التشكيلي الإنحياز إلى الفقراء

 بسام الكعبي

الجزء الأول

لَمَعتْ في نهاية شرفة البيت لوحة كبيرة للشاعر الراحل محمود درويش بتوقيع التشكيلي كريم دباح. خَطَفتْ اللوحة بريق الألوان وروح الجمال، ونَهضَتْ بحجم كبير لتلتقط بدقة متناهية ملامح راحل يطلُ من خلف عدسات مميزة؛ تكشف بلاغة الصورة الشعرية، وتتفجر بقوس قزح يستحقه شاعر أبَدعَ بتلّوين اللغة بمشهد البلاغة. كانت اللوحة الفنية عائدة  من معرض تشكيلي؛ أقيم في متحف محمود درويش بمدينة رام الله على شرف السنوية الثامنة لغياب الشاعر درويش في التاسع من آب 2008.

 بعيداً عن الشعر وإقتراباً من الرسم يُطرح السؤال: مِنْ أين عثر التشكيلي كريم دباح على أدواته الفنية؟ كيف إنتزع ألوانه عبر مسيرة شخصية حافلة بأحداث قاسية عصفت بفلسطين منذ النكبة الكبرى: تشريد شعب واحتلال أرضه، ضم الضفة الغربية وغزة، واحتلال ما تبقى من وطن مطلع حزيران1967، ثم توقيع اتفاق أوسلو 1993 وتسلم السلطة الفلسطينية مدن الضفة والقطاع. تفاعل كريم مع كل هذه الأحداث المختلفة عبر مراحل حياته، ودفع ثمن مواقفه الأخلاقية والكفاحية؛ دفاعاً عن رؤيته لوظيفة الألوان التي تستهدف  الفقراء وتحريضهم على إنتزاع حقوقهم في التحرر والعدالة.

ولادة بظروف قاسية!

ولد كريم  في حي القطمون غربي القدس يوم الحادي والعشرين من نيسان 1937 لوالد يدعى قسطندي دباح، وجاء ترتيبه الثاني بعد شقيقه البكر جورج. إمتلك والده معملاً للبلاط في جورة العناب المطلة على باب الخليل، وقد شَهَدَ الوالد نهاية الحقبة التركية، وإندلاع الحرب العالمية الأولى (1914- 1919) وهزيمة الامبراطورية العثمانية، وقيام القوات البريطانية باحتلال فلسطين. شاهد والد كريم الأوضاع الاقتصادية الصعبة للمواطنين، وتأثر بموت بعضهم جوعاً، نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية في القدس وتزايد معدلات الفقر. قرر والده تأجير الطابق الأول من بيته في حي القطمون سنة 1944 والانتقال إلى مدينة رام الله؛ وذلك للمساهمة في تكاليف بناء طابقين جديدين لم يكتملا قبل النكبة الكبرى 1948. أقامت الأسرة المكونة من: جورج، كريم، عيسى، كيتي وباسمة في البلدة القديمة بجوار سوق الخضار. الوالدة وداد جوري إهتمت أيضاً بأولادها، وبذلت جهداً في تربيتهم وتعليمهم؛ باعتبارها إحدى خريجات  مدرسة ألمانية تهتم بالفنون، وبرعَتْ والدته في الرسم والأشغال اليدوية، وأثرتْ موهبتها على نجلها كريم؛ وقد التقط منها مهارة الفنون والرسم والتخطيط، قبل رحيلها المبكر  سنة 1962، ثم غياب  كريمتها باسمة بعد سنوات، وإقامة نجلها عيسى وعائلته في العاصمة الأردنية عمان.

إلتحق كريم في الصف الأول ابتدائي بمدرسة رام الله الابتدائية (الثانوية حالياً) بجوار مصلحة المياه ومشفى رام الله الحكومي. مبكراً، التقط المعلمُ عبد الله مغنم، أستاذ التاريخ في المدرسة، موهبة الطالب كريم في الخط العربي، وشجعه على تنمية موهبته، وتوظيف جمال خطه في لافتات المدرسة، لكن المعلم الذي شحذ موهبة كريم واكتشف موهبته في الخط، هاجر إلى الولايات المتحدة، ليتابعه معلم الخط والرسم من عائلة شامية، وقد انتبه إلى جمال خط التلميذ كريم، وأثنى عليه وشجعه على تنمية موهبته. انتقل كريم مطلع الخمسينات من مدرسة رام الله الابتدائية إلى الكلية الأهلية لإستكمال الدراسة الإعدادية بعد إغلاق المدارس عقب النكبة، وضياع عدة فصول دراسية.

قضى في الكلية الأهلية في رام الله التحتا أربع سنوات، وإكتشف إلى جانب موهبته في الخط والرسم، إهتمامه بالسياسة؛ وناصر الحزب الشيوعي الأردني بقيادة الأمين العام فؤاد نصار. شارك في التظاهرات الشعبية ضد دخول النظام الأردني في حلف بغداد تحت الهيمنة البريطانية، وإلتحق بمسيرات اندلعت احتجاجاً على  إنتخابات مزيفة للبرلمان، وحلّ حكومة النابلسي الوطنية.

فتى يواجه الجفر

قبل أن يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وقع ليلاً في كمين لحاجز من وحدات البادية في الجيش الأردني، نُصب بمدخل بيته في رام الله التحتا، وتم اقتياده مع مجموعة من الطلبة الثانويين إلى مخفر الشرطة، ثم إلى سجن الجفر الصحراوي. إلتقى في السجن كادر الحزب الشيوعي البارز الشاب غسان حرب، وتعرف  على الأمين العام للحزب فؤاد نصار قبل أن يلتقيه خارج السجن، وحاور مجموعة كبيرة من معتقلي الحزب الشيوعي، البعث، الناصريين، القوميين العرب والإخوان المسلمين المحتجزين في سجن الجفر، وقد صدر بحق معظمهم أحكام مرتفعة بالسجن الفعلي. قرأ الفتى كريم بعمق الفلسفة الماركسية، وتابع الصحافة اليسارية اللبنانية التي كانت تصل المعتقلين السياسيين، وإبتسم له الحظ عندما أصدر الملك الأردني حسين قراراً بالافراج عن كل الطلبة الثانويين المعتقلين في الجفر وباقي سجون الأردن. غادر السجن سنة 1957 وعاد إلى رام الله مع رفاقه الطلبة المحتجزين في سجن الجفر الصحراوي بعد قضاء نحو سنة في زنازين المعتقل.

سافر إلى الكويت مطلع الستينات، وعمل في شركة ماكديرموت الأميركية: تزود الشركة مختلف شركات النفط الأجنبية بأنابيب متعددة الأحجام لاستخراج البترول. إشتغل عدة سنوات عاملاً في ساحة واسعة جداً للأنابيب في صحراء الكويت الحارقة، قبل أن يحصل على بعثة سوفياتية لدراسة فن طَرقْ النحاس وأشغاله الفنية. غادر الكويت سنة 1968 وتوجه مباشرة إلى جامعة ستروغونوف في موسكو: أنشأ المدرسة أحد نبلاء عائلة ستروغونوف الإقطاعية قبل 200 عام بسبب إهتمامه بالفنون، وكرمت الحكومة السوفياتية أحفاده بإطلاق إسم العائلة على الجامعة التي تضم عدة أقسام؛ الخزف وأشغال المعادن، الفن الجداري، السجاد الجداري، التصميم.

 نال كريم منحة مالية حكومية بقيمة 90 روبل شهرياً، كانت كافية لتغطية تكاليف حياته، ووفرتْ المنحة سكناً وكتباً وغطتْ كل احتياجاته. دَرَس اللغة الروسية، ثم أكمل خمس سنوات متخصصاً في الفنون التشكيلية، وتعلم فنون الرسم بالزيت والنحت وطبعات الفن التشكيلي، وحاز على شهادة الماجستير في الأشغال الفنية اليدوية والسيراميك.

عاد إلى الوطن سنة 1973 والتحق محاضراً للفنون التشكيلية في كلية النجاح الوطنية، وزامل طويلا رئيس قسم دائرة الفنون الموسيقي النصراوي غاوي غاوي، وكذلك التشكيلي المبدع كامل المغني من حي الشجاعية في غزة؛ الذي ساهم بتأسيس رابطة الفنانين التشكيليين أواسط السبعينات، وترأس هيئتها الإدارية سنوات عدة قبل وفاته في القطاع مطلع آذار 2008 عن 65 عاماً، وكان قد نال بكالوريوس في الديكور من جامعة الاسكندرية سنة 1966، وقضى ثلاث سنوات في سجون الاحتلال منذ العام 1969.

أنهى كريم تعاقده مع جامعة النجاح سنة 1981، وانتقل محاضراً إلى جامعة بيت لحم، لكنه لم يصمد بها مطولا؛ بسبب إختلاف نمط الإدارة مع فلسفته اليسارية ورؤيته العلمانية.

....يتبع الأسبوع المقبل

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017