الرئيسية / ثقافة وأدب
كريم دباح: مهمة الفن التشكيلي تحريض الفقراء
تاريخ النشر: الأحد 18/09/2016 10:10
كريم دباح: مهمة الفن التشكيلي تحريض الفقراء
كريم دباح: مهمة الفن التشكيلي تحريض الفقراء

 بسام الكعبي

الجزء الثاني والأخير

أنتخب كريم دباح عضواً في الهيئة الإدارية لرابطة التشكيليين سنة 1974 برئاسة نبيل عناني وعضوية سليمان منصور، كامل المغني وعصام بدر. بدت الرابطة قوية متماسكة في البدايات، لكنها تراجعت بفعل هيمنة مجموعة صغيرة عليها، وأدارتْ ظهرها بالتدريج لفناني قطاع غزة الذين ظلمتهم الرابطة وفق وجهة نظر دباح، كما ظلمت فناني شمال الضفة وجنوبها. غادر دباح صفوف الرابطة وشكّل مع الفنان عوض أبو عرمانه سنة 1988 جمعية ناجي العلي للفنون؛ وقد استقطبت عدداً محدوداً من التشكيليين، ونجحتْ برغم إمكانياتها المتواضعة في إقامة مجموعة معارض فنية في الوطن احتفاء بالشهيد العلي ونجمه الأسطوري حنظلة، لكنها لم تستطع مواصلة رسالتها الفنية ونشاطها لغياب حد أدنى من التمويل. ترأس الفنان أبو عرمانة جمعية ناجي العلي حتى وفاته يوم 30 آذار 2015 عن عمر ناهز 63 عاماً: ولد أبو عرمانة في رفح جنوب قطاع غزة، ونال شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة الاسكندرية سنة 1979، وظل حتى غيابه وفياً لفنه التشكيلي المقاوم وجمعية ناجي العلي.

أصيب ناجي العلي  في لندن يوم 22 تموز 1987 بطلقة غادرة نالت من عينه اليمنى! على خلفية رسوماته الكاريكاتورية التي لا تساوم ولا ترفع راية بيضاء، وظل المبدع في غيبوبة حتى وفاته يوم 29 سنة 1987: ولد العلي سنة 1937 في قرية الشجرة بين مدينتي طبريا والناصرة في الجليل. هاجر قسراً مع عائلته إلى لبنان وإستقر في مخيم عين الحلوة قرب صيدا. أسهم الموهوب برسوماته الكاريكاتورية في رفع شأن الصحافة العربية بعد أن إكتشف موهبته الكاتب غسان كنفاني. أنتج الرسام عبر مسيرته الفنية اللامعة نحو مائة ألف كاريكاتير قبل رحيله غدراً، ودفنه في مقبرة برووك وود في ضواحي العاصمة البريطانية لندن..رحل المبدع غدراً، لكن روحه الطاهرة ستبقى تعذب القاتل إلى الأبد، وستظل رسوماته مصدر إلهام للفنانين في العالم العربي كما كانت مصدر إلهام للتشكيلي دباح والجمعية  التي حملت إسمهوأطلقها مع التشكيلي عوض أبو عرمانه وستة من زملائه المبدعين.

                                                                              

دباح: شموط نموذج أخلاقي

تلقى كريم سنة 1991 دعوة من الفنان إسماعيل شموط رئيس الإتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، لحضور إجتماع مجموعة بارزة من فناني فلسطين في برلين الشرقية، قبل إنهيار سور برلين ووحدة ألمانيا، إستمع كريم مع عشرين رساماً إلى رؤية شموط من أجل النهوض مجدداً بالاتحاد العام خدمة للفن التشكيلي المقاوم، وشدد على فكرة إنتخاب هيئات إدارية في كل أفرع الاتحاد العام. أدرك كريم أخلاقية شموط، وصدق نواياه، وعمقه، وقوة حضوره في حقل الفنون على المستوى العربي، وشاهد حجم الاستقبال الكبير الذي أقيم  للتشكيلي البارز في جامعة النجاح (نابلس) أواسط التسعينات، ومدى تأثره بمشهد آلاف الطلبة والطالبات يستمعون إلى كلمة أعلن فيها شموط استعداده للتبرع بكل أعماله الفنية إلى متحف فلسطيني يساهم في إنشائه، واستعداده لبذل كل جهد مستطاع من أجل توفير التمويل اللازم لإقامة كلية جامعية متخصصة في الفنون.

زار شموط سنة 1997 برفقة زوجته الفنانة تمام الأكحل مدينتي اللد ويافا، وعندما عادا إلى المنفى فجرا كل غضبهما وحنينهما بتنفيذ 19 جدارية ضخمة: يبلغ إرتفاع كل واحدة مترين بعرض متر ونصف. خطف منها إسماعيل 11 جدارية ونفذت ثماني جداريات  زوجته تمام، واستغرق تجهيز العمل  أربع سنوات. حضر دباح إفتتاح الجداريات في عمان بحضور جماهيري كبير تحت عنوان (جداريات السيرة والمسيرة) وتنقل المعرض في عدة عواصم عربية. بَرع النجل بلال شموط بتصوير فيلم وثائقي حجز 75 دقيقة؛ روى سر الجداريات التي خطفت السيرة والمسيرة، لفنانين مبدعين عاشا تجربة النكبة ومرارة تشرد شعب فلسطين: ولد شموط سنة 1930 في اللد، وهاجر قسراً إلى مخيم خانيونس، وفقدَ أثناء الهجرة شقيقه الصغير توفيق بسبب العطش، ليستعيده لاحقاً في لوحة (العطش). نال شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة القاهرة، وشارك سنة 1954 إلى جانب الفنانين تمام الأكحل ونهاد السباسي بإقامة معرض تشكيلي تحت عنوان (اللاجئ الفلسطيني) بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر. حصل على منحة دراسية في روما، وعاد ليستقر في بيروت ويترأس قسم الفنون في منظمة التحرير. تزوج تمام الأكحل سنة 1959، وغادرا بيروت إلى الكويت سنة 1983 ثم إلى ألمانيا سنة 1992 قبل أن يستقرا في الأردن. رحل شموط يوم 3 تموز 2006 إثر عملية جراحية في القلب خضع لها في ألمانيا، ودفن في عمان بحضور حشد كبير من أبناء الشعبين الأردني والفلسطيني.

حاضر كريم في قسم هندسة العمارة (جامعة بيرزيت) وأسس سنة 2010 دائرة الفنون الجميلة في جامعة القدس، لكنه تلقى كتاب إقالة سنة 2012 من سري نسيبة رئيس الجامعة؛ تفيد بالاستغناء عن خدماته دون شرح الأسباب. اشتغل سنتين في جامعة القدس المفتوحة، ثم قرر التقاعد منذ العام 2014 والتفرغ لفنه التشكيلي ولوحاته والمشاركة في معارض جماعية.

عقب العدوان الإسرائيلي الأخير الذي استهدف قطاع غزة المحاصر، عرض دباح مجموعة كبيرة من لوحاته الفنية في معرض تحت عنوان (عودة وبدايات) في متحف محمود درويش، وخطفت اللوحات الجديدة إضراب الأسرى عن الطعام، والمقاومة بمواجهة الاحتلال، لكن اللوحة الأبرز سطا عليها ملصق الشهيد الفتى محمد أبو خضير، وقد رسم فيها التشكيلي وجهه البريء، مع أبيات من قصيدة الشاعر المصري علي محمود طه (أخي جاوز الظالمون المدى): تعرض الشهيد أبو خضير (16 سنة) من حي شعفاط في القدس، إلى الخطف على أيدي مستوطنين يوم 2 تموز 2014 وذاق ويلات التعذيب الأعمى والحرق العنصري، وعثر على جثمانه الطاهر في أحراش قرية دير ياسين غربي القدس.

دباح: غِبنْ تشكيلي إستثنائي

تعاطف كريم تاريخياً مع التشكيليين في قطاع غزة، لقناعته بأنهم تعرضوا لظلم فادح، وإعترف أن القطاع أنتج جيلاً تشكيلياً جديداً  يمتلك أدوات فنية متقدمة وبمستوى مرتفع؛ نتيجة الحصار المركب الذي يحاول قهر غزة، ويرى بالفنان فتحي غبن نموذجاً للتشكيلي الموهوب الذي صنع تجربته الشخصية بتفرد وإبداع. حضر كريم الندوة التي تحدث فيها التشكيلي غبن عقب وصوله العام الماضي رام الله قادماً من غزة، وقد نال وسام الاستحقاق الرئاسي مطلع حزيران2015.

ولد غبن في قرية هربيا المدمرة جنوب فلسطين سنة 1947، وإستقر مع أسرته اللاجئة عقب النكبة في مخيم جباليا (غزة). إحترف الفن أواسط الستينات وعمل مدرساً للفن في مدرسة النصر، وتميّز بصناعة تماثيل الطين الملوّن، ورسم بقلم الفحم والرصاص، وأقام عشرة معارض شخصية، ويعتبر أحد مؤسسي رابطة التشكيليين في الضفة وغزة. تعرض للاعتقال في سجون الاحتلال على خلفية رسوماته المقاومة، وناصرته حركة تضامن عالمية من الفنانين نجحت في الضغط على إسرائيل وضمان إطلاق سراحه عقب اعتقال دام شهور.

إبداعات تزيّن الجدار

تزوج كريم سنة 1975 من ريما حزبون،  وأنجبا أشرف سنة 1976 الذي أنهى دراسته في الموسيقى ويعمل في معهد إدوارد سعيد، فيما نالت شقيقته شيرين  شهادة الماجستير في الدراسات الدولية.   

غادرتُ منزل كريم دباح بعد ساعتين من حوار شيّق، إستعاد فيه التشكيلي بصوت هادئ، وذاكرة  حاضرة هامشاً من مسيرته الفنية برفقة تشكيليين بارعين.غادرتُ تحت حضور أعلام فلسطين ترتفع بقبضات شبان يافعين تطبع جرار السيراميك والخزف؛ وقد  شكّلها الفنان ببراعة في زمن الانتفاضة الأولى 1987، فيما نقش لوحته النحاسية فلسطين، المعلقة على جدار الشرفة، بحرفية عالية وطلاها بماء الذهب، خطفت الجدارية وأعلام السيراميك واللوحات الجميلة واجهات الجدار وزوايا رفوف الخشب، وبدت شاهدة على أمل بلقاء قريب؛ نشهد فيه جديد الأعمال التشكيلية الخلاقة، من أجل أن يضيفها الفنان كريم دباح إلى رصيده الذي تجاوز سبعين لوحة إبداعية، ومجموعة كبيرة من أعمال الخزف والسيراميك والنحاس؛ وقد تبدد معظمها للأسف، ولم يحتفظ إلا بالقليل من إنتاج مبدع عبر مسيرة طويلة؛لا زالت تشتعل بألوان تنتمي إلى وطن محاصر وفقراء يكافحون لانتزاع حقوقهم.

 

 

mildin og amning mildin creme mildin virker ikke
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017