نابلس – الحياة الجديدة – بشار دراغمة -
طلت بصوتها الثقيل، وافتتحت مكالمتها بـ"ألو حبيبي.. كيفك، اشتقنالك كثير"، صمتت بعدها ولم تقو على الكلام، كانت تنتظر صوت ابنها يطرب اذنيها ويأتي لها بأخباره وأحواله، وينقل لها ظروف معاناته، ويشرح لها عن عتمة غرفة "يضيئها" ضجيج المذياع الجميل، وصوت أمه الذي اقتحم المكان فجأة وراح يرتد صداه في زوايا المكان ناثرا انسانيته على أسير طال شوقه لرؤية تلك الأم العاشقة.
الأم ما زالت تتحدث في هاتفها وتنتظر رد ابنها تترقب لحظات يخرج لها بصوته.. قطعت ترددها بأسئلة أخرى طرحتها على ابنها.. "ماما حبيبي.. احنا كلنا مناح، أبوك بسلم عليك، وأرسلنالك 500 شيقل في الكانتينا، وبعثنا لك ملابس مع دار أبو محمود وكتبنا اسمك عليهن"..
تتواصل المكالمة والأم ما زالت تترقب صوت ابنها الذي لم يأت بعد.. تشرح عن أحوال مدينة نابلس، وتخبره عن أحوال الجيران، وعن كل من في الحي، من تزوجت من أخواته، ومن انجبت طفلا، تتحدث وتنتظر وتصمت لعل صوت ابنها يطل بعد قليل.. لكنها تفاجأت بصوت المذيع يقول لها "تفضلي يا حاجة، انت على الهواء مباشرة ومن المؤكد أن ابنك يسمعك.. هل تريدين إخباره شيئا آخر؟
تبكي الأم دموع شوق لابنها، فقد تخيلت للحظات أنها فعلا تتحدث مع ابنها المعتقل في سجن مجدو، رغم علمها مسبقا أن مكالمتها ستكون مع برنامج "شؤون الأسرى" الذي تبثه إذاعة صوت النجاح، وهو من البرامج المسموعة داخل سجون الاحتلال، ويعتبر وسيلة تواصل اساسية بين ذوي الأسرى وأبنائهم المعتقلين، في وقت تحرم فيه إسرائيل الكثير من أهالي الأسرى من زيارة أبنائهم، وتمنع كافة وسائل الاتصال، ولا تسمح إلا بوجود جهاز مذياع وتلفاز في بعض الأحيان.
وتعتقل سلطات الاحتلال نحو 5000 مواطن في سجونها، يحرم الكثير منهم من الزيارة، ولا يحصل الكثير من أهاليهم على تصاريح خاصة للزيارة بحجة "الرفض الأمني" وهي ذريعة يسوقها الاحتلال دائما لمنع أهالي أي أسير من زيارة ابنهم.
تقول الحاجة أم محمد انها تحاول اسبوعيا الاتصال مع برنامج شؤون الأسرى الذي يبث كل يوم أربعاء، لكنها لا تنجح إلا قليلا في اسماع صوتها لابنها محمد بسبب الضغط الكبير على البرنامج والاتصالات الهاتفية الهائلة التي يتلقونها. وتضيف: "عندما ينجح الاتصال أشعر فعلا أنني اتحدث مع محمد وانتظر للحظات سماع صوته وأن يرد علي بكلمة (هلا يما)، أشعر بضيق كبير عندما لا اسمع صوته، وفي كثير من المرات بكيت على الهواء لأن صوت محمد لم يصلني".
وتشير أم محمد إلى أهمية برامج الأسرى كونها تتعبر حلقة وصل وحيدة في كثير من الأحيان مع الأسرى ولا يمكنهم معرفة التفاصيل الاجتماعية للعائلة الا من خلال البرامج خاصة أولئك الممنوعين من الزيارة. وتضيف:" نخبر محمد أيضا بما نرسله له إلى السجن، وماذا يقول المحامي عن وضعه وغيرها من الأشياء المهمة".
وإذا كان الكبار يتخيلون للحظة أنهم يتحدثون مع أبنائهم فعلا، فحال الصغار يقترب من الحقيقة أكثر وأكثر، فذلك الطفل الذي لم يتجاوز أربع سنوات من عمره يتحدث بصوت الواثق في سماع صوت أبيه ليقول "ألو بابا.. كيف حالك، أنا شاطر في المدرسة وما بجنن ماما" وينتظر وينتظر حتى يسمع صوت أبيه ليثني على اجتهاده لكنه يتفاجأ بأمه من جانبه تقول له "خلص اعطي اختك تحكي".
والد الأسير عماد الجرف عاش أيضا تلك التجربة ربما بواقع أكثر مرارة، فقد كان يتحدث عبر الإذاعة، ويخبر ابنه عن أحواله، ولأنه اعتقد أنه يتحدث مع ابنه مباشرة أخذ يعتذر له بأنه لا يستطيع سماع صوته بسبب كبر سنه وضعف سمعه، توفي الجرف قبل نحو أسبوع، وكانت تلك المكالمة هي الأخيرة التي يسمع فيها عماد صوت والده.
الأسير المحرر عمار يقول انه عندما كان في الأسر وعندما يحين موعد أي من برامج الأسرى سواء عبر الإذاعة أو التلفزيون، فان ما يشبه حالة من منع التجول تسود السجن، وجميع الأسرى يتوجهون نحو المذياع أو التلفاز لعلهم يلتقطون صوتا عزيزا عليهم.
ويضيف:" في المرة الأولى التي سمعت فيها صوت والدتي شعرت بفرحة لا توصف.. صحيح أنني بكيت.. نعم بكيت.. لكن تخيلت للحظة أنني خارج أسوار السجن اللعين، مشاعري كانت متضاربة جدا، فرح لسماع صوت أمي، وحزين لبكائها على فراقي، ابتسم للحظات وهي تخبرني عن أحوال بلدتي وأهلي وجيراني وما الأغراض التي أرسلتها لي".
الإعلامي أمين أبو وردة مقدم برنامج "شؤون الأسرى" إلى جانب زميلته أمل القاسم، يشدد على أهمية هذه البرامج ويقول: "في عالم الأسر يبحث أهالي الأسرى عن أي وسيلة للتواصل مع ذويهم وقد تفننت العقلية الفلسطينية في ايجاد السبل لتحقيق ذلك سواء من المعتقل ذاته أو من ذوي الأسير".
وأوضح أن البرنامج لا يتوقف عن استقبال المكالمات الهاتفية وإنما قراءة رسائل ذوي الأسرى التي يتم تلقيها عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
وأضاف أبو وردة:"برامج الاتصال الهاتفي وارسال الرسائل من ذوي الأسير الى الأسير ذاته توضع بنفس الاطار، فالشعور النفسي والوجداني يظهر جليا خلال اتصال الأهل بالاذاعات ويشعر الأهل انهم يخاطبون ابنهم وهو يستمع اليهم بنهم واشتياق، حتى ان بعض الأهالي البسطاء يعتقدون انه بالامكان سماع نفس الأسير واوجاعه حيث يطلبون منه الرد عليهم اثناء المكالمة".
ويوضح أبو وردة أن هناك بعدا إنسانيا أيضا لهذه البرامج فعائلة الأسير تشعر انها باتصالها الهاتفي تطمئن إبنها الأسير انها لا تنساه ومتضامنة معه وتبقيه على اتصال دائم مع أسرته حتى لو طال الأسر وتطمئنه بكل تطورات العائلة من نواح اجتماعية، وقد نجحت برامج الأسرى في إيجاد نوع من العلاقة الوجدانية بين الأسير وذويه خاصة عندما تصل الرسالة من الزوجة والوالدين والأبناء خاصة الأطفال منهم".
وتعد برامج الاتصال الهاتفي ملاذا للاسرة الممنوعة من زيارة الأسير وايضا الأسير الجديد حيث لا تمنح لذويه تصاريح زيارة قبل مرور 3 أشهر على اعتقاله.
ولا تخلو تلك البرامج مع بعض المواقف المضحكة والمحزنة في الوقت ذاته فقد خرج ذلك الطفل بصوته ليقول: "بابا أخوي بضل يضربني ويتشاطر عليّ لإنك مش موجود.. تعال اضربه".