وقف على حافة المنحدر ..لاشيء تحت أقدامه سوى واد عميق مليء بالصخور ..كان الليُل مظلم قبيل الفجر بقليل ..و..المنحدر عميق جداً لا قرار له ..امسك بحجر وألقاه فيه ..بدا أمامه كأنه فم وحش مفترس يبتلع كل ما يلقى اليه مرة واحدة ....ابتلع ريقهُ ..أغمض عينيه ..
قال في نفسه : لابد أن أنهي كل شيء .. مللت من المماطلة ..الحياة هذه ليست لي ..ولست لها ..سأتركها لأهلها وامضي ..آن أوان الرحيل يا سامر ..ثلاثون عاما كافيات جدا للضياع والانكسار الآف المرات .. اليوم فقط سأضعُ حدا لتلك الحياة اليوم فقط سأقول كفى لكل وجعي وضياعي ... شعر بشيء من النشوة ..اخذ نفسا عميقا ..وكأن هذه آخر الأنفاس التي تدخل صدره ..
أغمض عينيه المثقلتين كأنهما جمرتين من نار ..سكون مخيف خيّم على المكان ..حتى الكلاب لم يسمع لها نباح..منطقة خالية كهذه تكثر فيها الكلاب الضالة والذئاب ....رفع يديه للأعلى وحين همّ بالقفز الى الوادي ..رنّ هاتفه الخلوي .. تناوله من جيبه ..إنها روان ..ما الذي ذكّرها بي الآن في هذه اللحظة بالذات ..أي لعنةٍ تحملُ هذه الفتاة مع اسمها ..ليتني لم اعرفها يوما ولم تعرفني ..
أمسكَ هاتفه وألقى به في الوادي تذكر وجهها وهي تبكي وتتوسل إليه أن يخطبها من والدها تذكر أجمل لياليه معها وكيف كانت تضعف أمام وعوده بالزواج ؛وتصبح بين يديه دمية بوجه مبتسم ؛كيف أضاعها معه وسلب منها كل ما تملك من مال وحياء وحياة ..ابتلع فم الوحش هاتفه واختفى الصوت الى الابد ..لم تختفي صورتها..
تلك الفتاة البريئة كانت إحدى ضحاياه صرخ بأعلى صوته ..الآن سأنتقم لك يا روان ممن أضاعك ..سأنتقم لك من سامر ..عاد الصوت إليه وكلمة سامر تخترق المدى ...وصداها يتردد..سامر سامر سامرررر الآن يجب أن اقفز ..لا روان ولا أي شيء قد يثنيني عن قراري ..أغمض عينيه من جديد اقتحم وجهُ أمه خياله ..قال في نفسه : حتى أنتِ ياام سامر لن تمنعيني الآن من القفز وإنهاء حياتي ..
كانت خيوط الفجر البيضاء قد افترشت صفحة السماء ... رفع يديه من جديد تقدم خطوة للأمام ..أغمض عينيه ..شعر بالعطش الشديد ..قال في نفسه ليس من العدل أن أقتل نفسي وأنا ظمآن ..
عاد للوراء كان هناك بٌئر في تلك المنطقة هو يعرفه جيدا انها ارض جدهِ يعرف كل شبر فيها ..أمسك بالدلو المربوط بالحبل وألقى به في قعر البئر سمع صوت اصطدام الدلو في الماء ..رفع الدلو وقد امتلئ ربعه بالماء ..شرب منه وارتوى ..هذه المياه غريبة تشعرك بالارتواء لأيام ..بعض المياه تشعرك بالعطش ..
كان الفجر قد اخذ مكانه في الأفق ..وبدت الأراضي الممتدة بشجرها مثل جنة خضراء بهية المنظر ..عاد لحافة الوادي ..وقف أمامه نظر للأسفل ..الرؤيا بدت واضحة انه منحدر مليء بالصخورِ الحادة لابد أنني إذا ألقيت بنفسي الآن سأصبح كومة لحم ستأكلني الطيور الجارحة ..وتجعلني لقمة هنيًة لأفواه فراخها الصغيرة ..لكنني استحق هذه العاقبة أنا أمضيت عمرا في الضياع لا فائدة ترجى مني لم تقترف يديّ هاتين سوى العار .استحق أن أكون لقمة في فم هذه الطيور الجارحة ..
سمع صوتاً من خلفه التفت فوجد أفعى تزحف بين الحشائش ..أوجس في نفسه خيفة ..الأفاعي أكثر ما يخيفه من الكائنات ..وقف متسمرا ..قال : إن ألقيت نفسي في هذا الوادي خيرا لي من لدغة أفعى مخيفة كهذه ..نظرت الأفعى إلى عيني سامر ..قالت له ..أتخاف الموت يا أبله وأنت تقدمُ عليه بكلتا قدميك ؟؟
جنّ جنونه ..اخذ يلهث وابتلع ريقه بصعوبة ..فمه أصبح مثل جوف شجره فارغة يابسة . ---.لا عليك نحن أيضا نتكلم مثلكم أيها البشر الأغبياء إن كنت تريد الموت بكل هذا الحماس فاقترب ..لدغة مني تريحك في غضون ساعة سترتاح للأبد -أنا لا أريد الموت على يديك.. ضحكت الأفعى ... صاح مرتجفا ابتعدي عني أيتها اللعينة ..
قالت : الموت ليس اختيار وليس قرار ..الموت قدر كالحياة لا تملك زمامه ..الموت ليس النهاية؛ الموت بداية لكل البدايات ويقظة كل الغفوات واستيفاء لكل الأمنيات... الم ترى كيف يموت المظلوم قبل استيفاء حقه وكيف يموت الشاب قبل انقضاء زهرة عمره الم ترى لتلك الأمنيات المؤجلة والحيوات التي لم نحياها والأماكن التي لم نزرها والأماني التي لم نحققها ..الموت ليس نهاية النهايات ..كيف تريد الموت وتسعى إليه وقد غفلت عن مصيرك المحتوم عند الله .. ومن أنت لتنهي شيئا أراده الله أن يكون ..من أنت لتوقف عداد حياتك بيدك الله الخالق وحده من وهبنا الحياة وهو وحده من يملك سر الموت ..
كان يستمع لحديث الأفعى وهو خائر القوى مهزم الروح بجسد يرتجف .. - تريد الموت وأنت خائف من مخلوقه ضعيفة مثلي ..تريد الموت وأنت لست بصابر عن عطش أصابك ..أي غباء وصلت إليه يا سامر ؟؟؟ انهض أيها الفاشل انظر للفجر للشمس كيف تشرق كل يوم دون ملل ..قد تكون الأيام متشابهة ..كل الصباحات لها نفس الأنفاس ونفس الإشراق .. ما يجعل صباحاً أجمل من صباح هو أنت حين توقظ الأمل فيك وتهيئ أحلامك وتصحبها معك في صباحاتك الجديدة ..تصحبها مثلما تصحب حقيبة عملك .. أنت من يعطي يومك قيمة عظيمة ..
عد إلى حياتك ..وتذكر أن أهم يوم في حياتك هو يوم ميلادك واليوم الذي تعرف الهدف من وجودك .. عد الى حياتك ..وكن شيئ ذا نفع .. ابدأ من جديد ..انظر لتلك الطيور كيف تبني أعشاشها دون ملل أو يأس ..إن كنتَ أخطأت في حق البشر فرب البشر غفور رحيم ..وَجه قلبَك إليه ..وابدأ من جديد ..ما كُسر يوماً بإمكانك إصلاحه ..قدم لحياتك .. لملم سامر أشلاء روحه ..وعاد لبيته وكأن تلك الأفعى أهدته عمراً جديداً..