بقلم: د. عدنان عياش وأيمن هشام عزريل
uzrail@hotmail.com
العولمة هي أيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته، وقد حددت وسائلها لتحقيق ذلك في استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية فـي نظمهـا، وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية، وكذلك في إعطاء كل الأهمية، والأولويـة للإعـلام لإحـداث التغيرات المطلوبة على الصعيدين المحلي والعالمي.
فالعولمة إذن سلوك وأداء وهي تفعيل وتنفيذ لنظم المصالح بين الناس يعتبر الجانب السياسي هو الأكثر حساسية للتغيرات التي فرضتها العولمة، على اعتبار أنه الأكثر ارتباطاً بالتطورات الاقتصادية، فالولايات المتحدة الأمريكية سعت لأن تنفرد بالشأن العالمي دون أن يكون هناك منافساً لها في إصدار القرارات، أو قطباً أخر يعيد للعالم التوازن المطلوب، فسعت إلى الحفاظ على مصالحها، دون أن تقيم اعتبار لأي دولة غيرها من خلال تبنيها نموذجاً يراعى مصالحها، ويحرص عليها، لاسيما بعد دخول سياسة اقتصادية جديدة يمكن اعتبارها الوسيلة التي سيتم وقتها فرز الأنظمة السياسة القائمة، ترمي إلى استلاب الدول، أو الحكومات بمعناها الواسع حقها المشروع في القيام بواجباتها، ومسؤولياتها التقليدية المعروفة.
ومن الجدير بالذكر أن تعبير "العولمة" في التداول السياسي قد طرح من قبل كتاب "بريجسكي" بعنوان "بين عصرين: دور أمريكا في العـصر الإلكترونـي"، وقـد طـرح هـذا المصطلح بعد تقدم وسائل الاتصالات الهاتفية بين الدول، وجاءت شبكات الانترنيت بوساطة الكومبيوتر لتضيف مبرراً آخر لتعزيز فكرة "العولمة"
كما إن نتائج الاتصال للعولمة مثل شبكة الانترنت، أدت إلى نتائج بالغة الأهمية في إشاعة مقولات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ونشأة المجتمع المدني العالمي، مما قاد إلى إيجاد جماعات سياسية معارضة قامت بعرض برامجها السياسية على شبكة الانترنت، وحظيت بالقبول من قبل الشعوب العربية، إلا أنه في الوقت ذاته أدى ذلك إلى الاصطدام نحو القيم، والأفكار السائدة في المجتمعات العربية، مما أدى إلى خلق حالة من عدم الاستقرار، فالأمة العربية عاشت سنوات عصيبة من التوتر، والقطيعة، والأزمات فيما بينها، وفترات أخرى، تضامنية، وتعاونية، وكان للمتغيرات الداخلية، والخارجية أثرها في ذلك، فقد أسهمت قوى العولمة في خلق الأزمات، والعمل على تصاعدها بين الدول العربية بعضها ببعض، مما نتج عن هذه الأزمات، قطع العلاقات الدبلوماسية، وتجميد العلاقات الاقتصادية بين قطر وآخر، وغلق المعابر الحدودية، فضلاً عن طرد العمالة، وعلى الرغم من هذا التأزم الذي قد يكون من ورائه أسباب داخلية، إلا انه يبقى لقوى العولمة الخارجية دوراً أساسياً في تأجيج، وتصعيد حدة الخلافات العربية العربية، والعمل على تعميق تبعية عدد من الأقطار العربية إلى العالم العربي.
فالولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها بما يمتلكون من إمكانات اقتصادية هائلة، وشركات متعددة الجنسيات، استطاعوا على تقليص النظام الإقليمي العربي، وقدرته المستقلة على الحركة إزاء الوضع الدولي الراهن، ومتغيراته السريعة، لذلك ارتبطت حقبة الدخول في العولمة إلى النظام الإقليمي العربي بحقبة كارثية تميزت بنمو اتجاهين عميقين، أولهما: التدخلات الخارجية التي سعت إلى إجبار البلدان العربية على الخروج من الحقبة الوطنية، سواء كان بالطرق السياسية، وما تعنيه من ضغوط، وزعزعة في الاستقرار، أو بالقوة التي استخدمتها لتفكيك الدول، والنظم القومية، وبوسائل دموية، أما الاتجاه الثاني: تنامي سياسات عبرت عن ردود أفعال وقتية، مفتقرة إلى الرؤية الشمولية والبصيرة، والقائمة على استجابات عشوائية، ولا عقلانية لنخب مشتتة، ومنقسمة على نفسها، ولقطاعات رأي عام ضائع عموماً وبعيد عن إدراك طبيعة الرهانات، والمشاكل المطروحة، والتحديات الحقيقية، عندها وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الأوضاع العربية الراهنة، الوقت المناسب لإثبات وجودها ودورها في قيادة النظام الدولي وتمثيله، وهو التحول الذي عجزت فيه أغلب القيادات العربية عن إدراكه، وحساب تداعياته على الأمن القومي العربي، فأصبح تعبير التنازل عن جزء من السيادة في عقد التسعينيات من القرن العشرين، حقيقة واضحة في أطروحات السياسة الأمريكية، بل حتى الأمم المتحدة تحدثت عن ما يسمى بالسيادة المرنة، فجميع السياسات الوطنية هي سياسات عادة تكون تحت سيطرة الدولة داخل إطار البلد الواحد، ونتيجة لظاهرة العولمة السياسية بدأت تلك السيطرة تتحول من يد السلطة الوطنية في البلد، إلى المؤسسات الاقتصادية، والمالية، والدولية، والشركات العالمية التي بدأت تؤثر في عمق السياسات الوطنية، وتقييد سبل الحكومات، والحد من طموحاتها في ميدان السياسات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، مما جعل الحكومات العربية تفقد قدرتها على صنع سياساتها الوطنية الداخلية والخارجية بصورة مستقلة.
إن ظاهرة العولمة السياسية لا تقل خطورة عن انعكاسات ظاهرة العولمة الاقتصادية على واقع الوطن العربي، ذلك لأن هذه الظاهرة ما هي إلا مشروع مستقبلي، لأنها تعتبر مرحلة تطورية لاحقة لظاهرة العولمة الاقتصادية، والثقافية التي سوف تؤدي إلى قيام عالم بلا حدود، ولا سياسة، وهو الهدف النهائي لظاهرة العولمة السياسية، فتحقيق العولمة الاقتصادية، والثقافية، سيسهل قيام عولمة سياسية التي في ظلها سيتغير مفهوم الدولة والسيادة، عن طريق تغيير الولاء للوطن والأمة، وإحلال محله ولاءات جديدة، ومثل هذه السياسة تؤدي بالنتيجة إلى إلغاء سيادة الدول، وانتهاك حدودها، واستقلالها، وسيكون تطبيق ذلك باستخدام كافة أنواع التدخل الاقتصادي، والسياسي فيها، وحتى لو استدعى ذلك الأمر اللجوء إلى استخدام القوة بكافة أشكاله، وأساليبه.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي تتواجد قواتها في الخليج العربي بجيوشها، وأساطيلها الحربية، وقواعدها العسكرية، تحاول تركيع جميع الأقطار العربية التي ترفض سياساتها، ومن ذلك دعوتها لإسقاط بعض الأنظمة العربية بالقوة المسلحة، ودعم حركات المعارضة ضدها، مثل سوريا في الوقت الحاضر، وليبيا سابقاً، بذريعة محاربة الإرهاب، وحماية حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، والدعوة للديمقراطية، والتعددية الحزبية، كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية لكثير من الأقطار العربية، وإجبارها على انتهاج سياسة موالية لها، وبالتالي فإن وصول الولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع القطب الاستراتيجي العالمي، جعلها تنفرد بقيادة الشرق الأوسط، ومنها المنطقة العربية من خلال دعوتها لشرق أوسط جديد يقوم على تبني المبادئ الأمريكية التي ترى فيها الولايات المتحدة الأمريكية تطوراً للديمقراطية، وتحقيقاً لمصالحها في المنطقة، ساعية إلى تهميش كل من لا يستطيع أن يتماشى مع النظام الذي وضعته، والخضوع له.
ومن أجل لملمة الوضع العربي من جديد أفراداً، وشعوباً، وأنظمة، ومواجهة العولمة بكل ما تحويه من أثار سلبية، يتطلب حركة قوية تقلب الاتجاه، وتستعيد المبادرة لجعل حركة الإصلاح من الداخل خاضعة لحاجات المجتمع العربي، ومرتبطة بتحقيق أهدافه، ومطالبه، بتفعيل عناصر القوة المتاحة في النظام العربي، والإصرار على عدم الوصول إلى درجة فقدان الهوية القومية التي تشكل العمود الفقري لهذا النظام، ومحاولة إيجاد أجندة قطرية، وإقليمية معاً لمواكبة العولمة، والحد من أثارها السلبية، ومحاولة الاستفادة منها، وتسخيرها لصالح البلدان، والشعوب العربية، وصولاً إلى مشروع حضاري ينسجم مع معطيات الوحدة، والعدالة، والتنمية، والديمقراطية، والاستقلال، والحفاظ على الأصالة، والتراث، وحفظ الكرامة.