بقلم: أيمن هشام عزريل
uzrail@hotmail.com
إن ما صرنا إليه اليوم من الوهن والهوان ما كان إلا لانتشار آفتين في مجتمعاتنا هما آفتا الجمود والجحود اللتان تمثلان الابتعاد عن المنهج والركون إلى الإفراط والتفريط، فالناظر لطبائع الناس وأفكارهم بمختلف ثقافاتهم ومجتمعاتهم يلاحظ مظاهر التطرف والغلو ليس في التدين- فحسب بل حتى في معاملتهم فيما بينهم وعلاقاتهم الاجتماعية المختلفة الأمر الذي أدى إلى وقوع مزيد من الأزمات- والمشاكل ولا خلاص من ذلك كله إلا بالعودة إلى الاعتدال في جميع الأمور فكراً وسلوكاً.
أن من التعاريف بالوحدة الوطنية هي طاعة القانون في أطار الحرية الممنوحة منه على أن يتوافق القانون مع منطق العدل الذي هو منطق التاريخ، والمشكلة الأساسية التي يقتضي إدراكها أن الانقسامات في أي مجتمع حالة طبيعية إذا ما كانت محكمة بضوابط وشروط الصراع السلمي، الهادف للتغيير والإصلاح وهي من سمات المجتمعات الحية المتطلعة للبناء العصري وتجاوز عوامل الفرقة والاختلاف وصولاً للوحدة الوطنية لقيادة العملية السياسية والتعامل مع أزمات البلاد المتعددة بمنظور واحد وبرنامج ومنهاج موحد يمتلك قدرة التعامل مع المشكلات التي تتعرض لها أوضاع البلاد. من خلال ما تقدم نلاحظ إن الوطنية هي شعور عاطفي بالحب للبلد أو الإقليم الذي يعيش عليه الفرد.
أن المعايير التي تقوم عليها النظم الديمقراطية المعروفة والمألوفة في عالمنا المعاصر (كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية- ألمانيا– سويسرا- البرازيل- الهند وغيرها) تقوم على أساس جغرافي (ولايات– أقاليم– محافظات-… الخ) وليس على أساس قومي عنصري ولا على أساس ديني طائفي. وبقدر تعلق الأمر بفلسطين فإن المطروح اليوم فيما يخص المطالبة بالوحدة الوطنية صيغ متعددة والمطلوب من القوى السياسية والوطنية تفضيل صيغة الديمقراطية لكل فلسطين. من هنا تأتي أهمية الدعوة للجميع للانشغال أساساً بالديمقراطية وبالبناء، وهذا الانشغال سيكون كفيلاً بحل كافة الموضوعات والخلافات.
تعد قضية ( الوحدة الوطنية) في فلسطين من أعقد المشكلات الحديثة، ويعود ذلك لأسباب عديدة أبرزها: التكوين السياسي، إذ تقع على النظام السياسي وبدرجة أساسية مسئولية تحقيق التعايش السلمي والوحدة الوطنية، فطبيعة النظام السياسي وخياراته وسياساته تلعب أدواراً أساسية إيجاباً أو سلباً في توفير المناخ الوفاقي والتعايش السلمي، أو تفكيكه وتمزيقه، فالنظام السياسي الذي يمثل قيم ومصالح وهوية الجميع، ويلبي حاجاتهم ويشبع رغباتهم ويحقق أعلى درجات العدالة والمساواة فيما بينهم، سيكون قد خطى خطوات متقدمة في طريق تعميق مشاعر الولاء والانتماء للوطن.
والنظام السياسي الذي ينطلق في سياساته وخياراته من مفهوم الدولة للجميع وبالجميع، ويؤسس وظائفها وأدوارها المختلفة تبعاً لذلك المفهوم، ويفتح مشروعاتها ومؤسساتها وهياكلها ومناصبها ومسؤولياتها لكافة مكونات المجتمع دون تحيز لهذه الفئة أو تهميش لتلك، سيكون قد قطع شوطاً في خلق شعور الإنصاف والعدالة بين مواطنيه. والنظام السياسي الذي يبسط مبدأ الشراكة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقة بين المركز والاطراف ويعمل على ترسيخ النظام اللامركزي تحقيقاً للتوازن والتوافق في توزيع الحقوق والواجبات والمهام الوطنية، ويعطي الاطراف والأجزاء هامشاً أوسع في تملك وتسيير المؤسسات الإدارية والوظائف الحياتية ( المعرفة، السلطة، والثروة) سيكون أكثر إقناعاً بإمكانية تحصيل وحدة وطنية حقيقية وإيجابية، وبالمقابل فإن تجارب الأنظمة الدكتاتورية دون استثناء برهنت صعوبة – إن لم يكن استحالة – بناء وحدة وطنية حقيقية ومعتبرة، بل أن شواهد التاريخ البعيدة والقريبة تؤكد بجلاء بأن الأنظمة الدكتاتورية تمثل أقصر الطرق إلى انقسام وتفكك المجتمعات والدول بل وتناصرها وتقاتلها.
النظام السياسي وحده لا يمكن أن يخلق كل شروط ومتطلبات الوحدة الوطنية، وإنما هو بحاجة إلى جهد الشعب بكافة مكوناته باحتسابه المكون الأساسي للدولة، فالشعب برموزه الدينية والشعبية، وفعالياته السياسية والفئوية، يمثل ركن أساسي وعمود فقري في تعزيز التماسك الداخلي وتعميق خيار التوافق الأهلي، وفق عدد من الالتزامات منها: أن تتهيأ مكونات الشعب المختلفة لقبول بعضها البعض نفسياً وعقلياً وسلوكياً، فالقبول يعني بالضرورة الاعتراف بالأخر وجوداً وفكراً ومشاركة، واحترام ما يحمله من توجه وما يتخذه من مواقف في أي مجال كان، ومن ثم تأتي خطوة هامة تتمثل في تفعيل وتنشيط صيغ التفاعل والتضامن اجتماعياً وسياسياً وثقافياً ووطنياً، إذ لا تعايش بدون انفتاح وتواصل وتفاعل.
وهنا تبرز أهمية تأسيس نمط العلاقات بين مكونات الشعب المختلفة على قاعدة التعايش والتساكن والتسامح والتعددية وصيانة حقوق الإنسان والشراكة الوطنية القائمة على قاعدة الوفاق والتفاهم والثقة والمسؤولية المتبادلة الموصلة إلى مفهوم الـ(نحن)، فحقائق الوحدة الوطنية وتجلياتها لن تبرز إلا برسوخ تلك القيم وتجذرها اجتماعياً باحتسابها بوابة توفر الظروف الذاتية والموضوعية لإيجاد مناخ ثقافي ونفسي، وبيئة اجتماعية ووطنية تسمو دوماً فوق كراهية الماضي وتتجاوز استقطابات اللحظة والحدث العابر، وتطوي محطات التوتر والهواجس والشكوك القديمة منها والحديثة، وتتصدى بشكل مباشر أو غير مباشر لدواعي الانقسام والتشرذم، وللنزعات المخلة بالنسيج الوطني ولكل سلوك ينخر جدار الوحدة الوطنية.
وهنا لامجال لتجاوز الحوار كمقوم أساسي من مقومات الوحدة الوطنية كونه يسبغ شرعية على الاطراف المتحاورة فالحوار مع طرف يعني سياسياً الاعتراف بوجوده، والرغبة في التواصل معه، والحوار كمبدأ وأسلوب ووسيلة لا غنى عنه حاضراً أو مستقبلاً في معالجة المشكلات البينية وتضميد الجروح وتفعيل الحراك السياسي والاجتماعي، فضلاً عن أن الحوار أسلوب مهم للتعرف على القواسم المشتركة وقيم التعايش الأساسية، وبالتالي تحديد المساحات المشتركة التي يجب تنميتها وحمايتها على الدوام، فالعنف كما يقولون يبدأ عندما ينعدم الحوار أو تتعطل ايجابياته.
وفي الختام إن تحقيق الوحدة الوطنية في مجتمع يتطلب غرس قيم مشتركة لعموم المجتمع بشكل لا تتصادم مع القيم الفرعية لكل جماعة اجتماعية أو تلغيها وإنما تصهرها في بوتقة واحدة لمصلحة المجتمع ككل، وهذا يتطلب جهوداً متواصلة اجتماعياً وسياسياً بشكل يضمن العدالة التوزيعية ويضمن إيصال الحقوق الأساسية لفئات المجتمع كافة دون تفضيل فئة على أخرى، مما يسهم بالمحصلة النهائية في إرساء وتعزيز مقتربات الوحدة الوطنية بين جميع أطياف ومكونات المجتمع الفلسطيني مستقبلاً، الأمر الذي سيؤدي إلى تحفيز مدركات الوحدة الوطنية وتحقيقها بالشكل الأمثل بما يخدم طموحات وتوجهات المجتمع الفلسطيني للمرحلة القادمة.