العرب
“الفن والآلة” معرض استغرق إعداده خمس عشرة سنة، نظرا لتوزع الأعمال الفنية التي تستجيب للغرض على أكثر من أربعين متحفا في شتى أنحاء أوروبا، فضلا عن أحجامها التي تفوق أحيانا عشرة أمتار، ما شكل تحديا حقيقيا لنقلها وتقديمها للجمهور في أوضاعها الأصلية بمتحف كونفلوانس بمدينة ليون الفرنسية.
فكرة المعرض خطرت بأذهان منظميه منذ عام 2001، وذلك لإبراز العلاقة الوثيقة بين نظرة الفنان إلى الآلة وتطور التكنولوجيات الصناعية والميكانيكية منذ الألواح التقنية لموسوعة ديدرو ودالمبير في القرن الثامن عشر إلى اليوم.
وهي نظرة تعكس انبهار الفنان بالآلة، واستلهامه مفرداتها، والاستئناس بها أحيانا لخلق عالم ملؤه الأحلام والتهويمات، أو التوسل بها لنقد طغيانها حدّ الهيمنة في المجتمعات الحديثة.
منذ عهد التصنيع الأول إلى المرحلة التكنولوجية الحالية، ما انفكت المخترعات التقنية تكيف الحياة الاقتصادية والسياسية، وتستدعي أيضا المخيال الجمعي، فهي مصدر إلهام لا ينتهي وموتيف متميز في الحقل الفني. واكبت المتاحف إبداعات الفنانين في هذا المضمار وخصصت لها معارض ضخمة، كذلك الذي نظّمه مؤرخ الفن السويدي بونتوس هولتن عام 1968 في متحف الفن المعاصر بنيويورك تحت عنوان “الآلة ونهاية العصر الميكانيكي” ويطرح فيه العلاقات المعقدة بين الفنان والآلة، فهي من ناحية مرادف للنمو والتطور، ومن ناحية أخرى عامل استعباد يضع الإنسان في مواجهة زيف اكتفاء ذاتي عضوي.
الآلة ما فتئت منذ فجر الثورة الصناعية الأوروبية تفرض حضورها في المعيش اليومي للبشر، ثم صارت جزءا لا يتجزأ من حياتهم، في حِلّهم وترحالهم، خصوصا عندما اتخذت أشكالا تتراوح بين القوة والجمال، بين الفخامة والسرعة، كالطيارات والقاطرات والسيارات، ولم يكن الفنانون بمنأى عن تلك التطورات، إذ سرعان ما اتخذوها رمزا للحداثة والتطور، كما هو الشأن لدى كلود مونيه وفرنان ليجيه ومارسيل دوشامب وجان تينغلي، الذين صاغوا أعمالا تشكيلية غير مسبوقة، أو ابتكروا هم أنفسهم آلات غريبة، تمتَح من الأصل أحيانا وتحيد به في نوع من الانزياح الفني.
وكان الصناعيون في تلك الفترة يستدعون الفنانين لتقديم شهاداتهم عن الثورة الصناعية وإيلاف الناس بها عبر تمجيد الآلات. ويفتحون لهم أبواب المصانع لينقلوا أنشطة هذا العالم الجديد، على غرار لوحة “مصنع الورق المقوى” لفرديناند جوزيف غيلدري، قبل أن ينوب عنهم المصورون الأوائل.
في بداية التصنيع، كانت الآلات رمزا للحداثة، ثم تلتها مرحلة اتسمت فيها بالسرعة، ما جعل الفنانين يهتمون بالخطوط الخالصة والديناميكية الهوائية وحركات الآلات، كما في “سيارة دي إس” للمكسيكي غابريال أوروزكو التي تظهر من جانب كسيارة من سيارات الأعوام الخوالي، ولكنها في الواقع فريدة من نوعها، من جهة صنعها البديع ومن جهة تفردها بمقعد وحيد.
الصناعيون كانوا يستدعون الفنانين لتقديم شهاداتهم عن الثورة الصناعية وإيلاف الناس بها عبر تمجيد الآلات
“مروحة طيارة” عمل آخر سبق عرضه في صالون النقل الجوي بالقصر الكبير بباريس عام 1912، وصرح أمامه مارسيل دوشامب منبهرا “انتهى عصر الرسم الزيتي، من يبدع أحسن من هذه المروحة؟”. وهو ما دفعه إلى تجربة الريدي ميد، التي اختار منها المعرض “عجلة دراجة”. ومع ذلك فانتشار الآلات في حياة الناس بشكل طاغ، مع ما انجرّ عن ذلك من حوادث، جعل بعضهم يعبر عن رفضه إياها بأعمال ناقدة أو ساخرة أو محذرة من مغبة استسلام البشر لها كما في منحوتة “جولييتا – ألفا روميو” للفرنسي سيزار بلداتشيني الشهير بسيزار، وهي عبارة عن سيارة حقيقية معجونة عجنا.
الفنانون استوحوا مقاربة تقوم على الرمزية والتخييل أكثر من قيامها على استحضار الآلة كليا أو جزئيا، فابتدعوا أعمالا خارجة عن المألوف، فيها العجيب كـ”دراجة” الموزمبيقي تيتوس مابوتا المصنوعة من ألياف الشجر، أو “ميتا أرموني” للسويسري جان تينغيلي وهي توليف بين مجموعة آلات متحركة.
هو معرض يبين كيف استلهم الفنان من الآلة عالما جديدا لا يتحرك، ثم كيف حوّلها إلى أداة خلق خصوصا مع اختراع التصوير الشمسي والسينماتوغرافيا، ثم إلى أداة فنية بالتصرف في عناصرها وتحويلها عن وظيفتها الأولى.
على مدار المراحل الزمنية، ومن خلال نظرة الفنان، يتساءل الزائر ما إذا كانت تلك الآلات صامتة أم أنها تحولت مع المبدعين إلى عمل له نبضُ الفن وسِماتُه.
ولعل خير مثال على ربط الفن بالآلة شريط “وصول قطار إلى محطة لاسيوطا” للأخوين لوميير الذي يفتتح به المعرض ويرجع عهده إلى عام 1895 سنة عرضه أول مرة في هذه المدينة بالذات، قبل أن يمرّ الزائر إلى اكتشاف الآلات الصناعية الأولى السيارة منها والطيارة.
يقول كريستيان سرميه مدير المتحف ومندوب هذا المعرض: كان يمكن أن نجمع الأعمال الفنية مع آلات حقيقية، ولكننا اخترنا سبيلا آخر، يقوم على عرض 178 قطعة تقع في حدود عالمين، ما يجعل الزائر يتساءل هل هو أمام آلة أم عمل فني، وما هو الحد الفاصل بينهما؟
أبو بكر العيادي