تحقيق: نهلة الفقي
لا يستطيع الطفل الكلام إن لم يسمع أفراد المجتمع من حوله يتخاطبون، ويكتسب تلك الموهبة الفطرية بالمحاكاة، ويبدأ أولى كلماته مستخدماً حنجرته بنداء أمه فينتقل بذلك إلى مرحلة جديدة من حياته، مرحلة التعبير عن ذاته ورغباته، مستخدماً جهاز التحدث الذي تعتبر الحنجرة عموده الفقري.
يقول د. خيري الحاج أبو شرا استشاري جراحة الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى زين ومستشفى الصباح بالكويت: «الحنجرة أرغول للتواصل بالكلام والتلاوة والإلقاء والغناء والهمس والصياح، حتى إن البعض تقوم مهنته حصرياً على جمال أو قوة صوته كمقرئ للقرآن أو مدرس أو مطرب، ما يجعل الحنجرة لديهم ثروة لا تقدر بمال ويوجب فقدها الاعتزال كما رأينا في حالات بعض المشاهير الذين فقدوا أصواتهم فانحسرت عنهم الأضواء، لذا ترى حرص الحصيفين منهم على تجنب التدخين والتعرض لتيارات الهواء وكذا شرب المشروبات التي تساعد الحنجرة على حسن وسهولة الأداء».
ويضيف د. خيري: «بالحنجرة تستمر الحياة في عملها كممر يمر خلاله الهواء الذي هو أساس البقاء، والحنجرة تركيب رباني فريد من غضاريف وأربطة وعضلات وغشاء طلائي داخلي مبطن، وتقسمها الأحبال الصوتية إلى ثلاثة أجزاء: منطقة الأحبال الصوتية وأخرى فوقها وثالثة تحتها، أما الغضاريف التسعة بها فأساسية لاستدامة انفتاحها لمرور الهواء دخولاً وخروجاً إلى الرئتين عبر القصبة و الشعب الهوائية، كما أن الحنجرة متصلة بعظمة اللامة في مقدمة الرقبة لمزيد من التثبيت بالتعليق، وحولها من الجانبين والخلف يقع البلعوم الحنجري، أما في الأمام فهي تحت الجلد ومغطاة بشرائح رقيقة من العضلات، وتوجد اختلافات جوهرية بين حنــــجرة الأطفال والبالغين ما يجعل الأطفال أكثر عرضة للمضاعفات والصعوبات التنفسية عند إصابتهم بالأمراض الحنجرية، ومن أهم غضاريفها لسان المزمار ويشبه ورقة الشجر ووظيفته الانكفاء فوق الحنجرة فور الإحساس بالبلع فيمنع الطعام والشراب أو حتى اللعاب من دخول الحنجرة حامياً لها من أخطار الغصة وغمر الرئتين ما قد يهدد الحياة، يحدث هذا الخلل في مرض ما بعد الشلل النصفي الذي يصـــاحبه فــــقد للإحـــساس الحنجري ما يفقدهم هذه الحماية، ويختص العصب الحائر عن طـــــريق فرعين حــنجريين بكل ناحية بالإحساس وتحريك العضلات التي تعمل على الأحبال الصوتية إطالة وتقصيراً وعلواً وانخفاضاً وقرباً وبعداً لتلائم نغمات الكلام، بالضبط كما نرى الفرقة الموسيقية تضبط الأوتار قبل البدء في العزف وتدفق النغمات، وتوجد غــــدد تفرز المــــخاط اللازم لتــــرطيب هذه الأوتار».
يشير د. خيري إلى أنه حين تقفل الأحبال الصوتية مجرى الهواء بتقاربها يزداد ضغط الصدر والبطن اللازم للولادة أو غيرها أو لرفع ثقل أو جره، كما أن منطقة الأحبال الصوتية هي أضيق مكان بالمجرى التنفسي ما يجعلها حماية من الأجسام الغريبة، كذلك تقوم الكحة بإزالة أي متسلل غباري أو بكتيري أو سائل طاردة إياه للخارج كبلغم زائد أو ما شابه. وعن أمراض الحنجرة يقول د. خيري: «تعرف أمراض الحنجرة بأعراض كثيرة أهمها تغير الصوت -فيما يعرف بالبحة-، أو ضعفه، وكذلك الاختناق وصوته يشبه صرير الباب الصدء ويختلف تماماً عن صوت الشخير، ومن الأعراض أيضاً صعوبة البلع واستثارة البلعوم وآلام بالرقبة أو الأذن وكثرة النحنحة أو وجود تورم بالرقبة، يقوم فحص مريض الحنجرة على مجموعة من القواعد منها فحص الأنف والرقبة والحنجرة (بالمرايا أو الفحص المنظاري الوظيفي والميكروسكوبي) وأخذ عينات لفحص الأنسجة وعد كرات الدم البيض وسرعة الترسيب ومسحات الحلق واختبارات الدرن وغيرها وأشعة الصدر والأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي للرقبة.. ويتم الانتقاء من التحاليل السابقة حسب ما يراه الطبيب ناجعاً لتشخيص الحالة».
أما عن أنواع أمراض الحنجرة فيؤكد د. خيري أن منها ما يولد به الإنسان مثل: وجود ضيق تحتها، أو غشاء بين الأحبال الصوتية يلزم شقه بالليزر إذا سبب اختناقاً، أو شلل ثنائي للأحبال الصوتية يستوجب شق القصبة الهوائية لمنع الاختناق، كذلك ربما يعاني المولود ضعفاً بالغضاريف الحنجرية ما يسبب ضيق المجرى الهوائي والاختناق وصعوبة الرضاعة وهذه الحالات تتحسن مع السن إلا إنه يلزم التدخل المبكر للشديد منها.
ومن أمراض الحنجرة كذلك الالتهابات الحادة التي تعقب نزلات البرد أو الإنفلونزا والتي قد تسبب خطورة بالغة خاصة في حالات التهاب لسان المزمار وتضخمه وسده لمجرى التنفس كذلك ربما تؤدي الالتهابات للحمية واجبة الإزالة والفحص النسيجي. وكذلك الالتهابات الميكروبية الخاصة مثل الدرن والسكليروما أو أمراض الروماتويد والتي تستوجب فحص الأنف الذي غالباً ما يكون مصاباً، وهذه الحالات تحتاج إلى علاج دوائي وجراحي.
وعن الارتجاع المعدي المريئي يقول د. خيري إنه المتسبب في الكثير من أمراض الحنجرة لما للحمض المعدي من أثر مهيج ومسبب للتقرحات والتورم، وتعالج هذه الحالات بعد التشخيص بالمنظار المريئي بتنظيم الوجبات وبالأدوية التي تنظم ضخ الحمض والتي تتحكم في عضلات المعدة أو بتدخل جراحي.
أما حالات الأورام فمنها الحميد كالورم الدموي في المواليد ويعالج بجرعات من الكورتيزون، بينما تعالج الأورام الثألولية الحميدة بمضادات الفيروسات والإزالة بالليزر وغيره ومن مضاعفاتها سرعة الرجوع بعد الاستئصال، بينما تعتبر الأورام الخبيثة تحدياً كبيراً للطبيب والمريض وتعالج في المراحل الأولية بالعلاج الإشعاعي والكيماوي فقط، كما أنهما ربما يتبعان أيضاً الاستئصال الجراحي الكلي أو الجزئي مع إزالة المجموعات الليمفاوية وذلك في الحالات المتأخرة من الورم، وهنا يظهر السؤال: كيف سيتكلم المريض بعد استئصال الحنجرة؟
يضيف د. خيري: «في هذه الحالات تستأصل الحنجرة للحفاظ على مجرى التنفس وحياة المريض ومنع الانتشار، ولاستكمال نجاح العلاج لا بد من تعويض الصوت و هنا يجب أن نعرف بأن الصوت كالناي أو الأرغول ينفخ فيه العازف ثم يحرك أصابعه ليمر الهواء عبر الفتحة صاحبة النغمة المراد عزفها.. كذلك القصبة الهوائية تدفع بالهواء فتجزئه الحنجرة والبلعوم واللهاة والشفاه وثنايا الأسنان إلى الـ28 حرفاً، بعد العملية يبقي لدينا 22 حرفاً لأن الحروف التي تعزفها الحنجرة المزالة 6 (ء هـ ع غ ح خ)، ولإعادة رجوع هذه الحروف الـ22 الباقية يلزمنا نفخة الهواء أو الاهتزاز، ويكون ذلك باستخدام جهاز هزاز إلا أن الصوت يكون مثل الروبوت، أو أن يتمرن المريض على ابتلاع الهواء وتجشئه و الكلام به و هي تحتاج لمريض صحته العامة جيدة و ذي عزيمة، أو بهواء يأتي بفتح فتحة من القصبة الهوائية إلى البلعوم ليعبر الهواء عازفاً الأحرف الباقية وهي من أنجح الطرق و يوضع صمام ليسمح بمرور الهواء دون السوائل والطعام.
تشكل أمراض الحنجرة الوظيفية من نتوءات أو حوصلات أو شلل أو تشنجات أو ارتخاء مشكلة حقيقية خاصة عند محترفي استخدام الصوت وتعالج بالعديد من التدخلات كالعلاج والتمارين الصوتية و اتباع نظام غذائي و بيئي خاص أو إزالة بالجراحات الميكروسكوبية للحنجرة أو حقن لمادة البوتكس أو دفع الأحبال الصوتية أنسياً (للداخل) أو وحشياً (للخارج) لتسهيل التلامس وتحسين الصوت.
أما إطالة وتقصير الأحبال الصوتية فذلك موضوع يهم المرضى ذوو الخلل الهرموني الذي ربما يؤدي لرجل صوته كامرأة أو العكس مما يستوجب التصحيح بإطالة الحبل الصوتي أو العكس».
أما إصابات الحوادث أو عقب العمليات فهي أيضاً تستوجب العلاج الجراحي كما يقول د. خيري، ويضيف: «يلزم كذلك تأمين مجرى الهواء، و هذه الإصابات ربما تحدث نتيجة مشاجرات الأسلحة البيض، أو بالرصاص، كالطلق الناري الذي أصاب حنجرة الملك المصري فؤاد ولازمته البحة حتى موته، وكذلك ربما تصاب الحنجرة من الصدمات إلا أن انحناء الذقن فوق الصدر يقلل من هذه الإصابة، أيضاً التعرض لبخار ماء أو بخار أحماض شديدة يؤدي لتورمات بالحنجرة و اختناق، كما تؤدي بعض العمليات لشلل أحادي (يؤدي لبحة) أو ثنائي (يؤدي لاختناق) و من هذه العمليات استئصال الغدة الدرقية أو عمليات القلب المفتوح إلا أن نسبة كبيرة من هذه الحالات تشفى تماماً بعد حين.
توجد أيضاً حالات مرضية نــادرة كوجود كيس هواء متصل بالحنجرة قد يلتهب و يتكون به خراج وهذا الكيس الهوائي يحدث في بعض المرضى الذين يعملون بصناعة الزجاج أو عازفي السكسافون، كذلك قد تعرض حالات تورم الأحبال الصوتية في دائمي تدخين الشيشة أو ذوي الحساسية المفرطة المصابين بها للاختناق، مما للحنجرة و التخاطب من أهميــــة فقد صارت تخصصاً مستقلاً له تصنيفاته وأدواته وأخصائييه وأقسامه ومؤتمــــراته ويــــمنح فيه الأطباء درجات علمية عليا».
وعن التهاب الحنجرة يقول د. عادل المنصوري استشاري أمراض الأنف والأذن والحنجرة بالشارقة: «مع تباين الفصول بين الحرارة والبرودة، تنشط فيروسات الإنفلونزا التي يصاب بها الجهاز التنفسي، لتلقي بآثارها على إحدى أعضائها الرئيسية ألا وهي الحنجرة، فتعتل بالالتهاب الذي يؤثر بشكل جلي في كفاءتها، فيظهر ذلك من خلال بحة الصوت أو تغيير طفيف في حدة نبرتها، وقد يتطور الأمر لفقد القدرة على الكلام، إما نتيجة إصابة الأحبال الصوتية بالإجهاد، أو لتعرضها للالتهاب بسبب عدوى فيروسية أو بكتيرية أو فطرية».
ويضيف د. عادل: «باعتبار الحنجرة عضو رئيس في الجهاز التنفسي، فهي المنظومة المسؤولة عن الكلام، وتتكون من عدة غضاريف، الغضروف الدرقي والحلقي، وثلاثة غضاريف زوجية هي الغضاريف القرنية، الإسفينية، الإرتينويدية، وتتصل جميعها بعدة أربطة مبطنة بغشاء مخاطي وعضلات، تعمل على تباعد وتقارب الأحبال الصوتية أثناء عمليتي الشهيق والزفير، وأثناء الكلام والبلع.
والحنجرة عضو يتأثر بكل ما يمر على الجهاز التنفسي سواء باستنشاق المواد الكيميائية، والعطورات، أو بتناول المشروبات شديدة الحرارة، ولكن بشكل عام تتعرض للالتهاب نتيجة لإصابة الجهاز التنفسي بهجمة فيروسية، فتعتل ويظهر تبعات ذلك في أعراض عدة، يتطرق لها د. عادل قائلاً: «تكثر في أوقات تغير الفصول الشكوى من الأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي العلوي نتيجة الإصابة بعدوى فيروسية بارا إنفلونزا (para-influenza) أو أديـــنو فيــــرس (Adeno - Virus)، وما يصاحبهما من أعراض، كحرقان في البلعوم، بحة في الصوت، ارتفاع في درجة الحرارة، وفي بعض الأحيان يكون هناك كحة وبلغم بشكل بسيط، كما قد يصاحبه انسداد وسيلان الأنف، وقد تتفاقم الأمور عند التهاون في علاج تلك الأعراض، فتظهر بعض المضاعفات المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة، التهاب في الجيوب الأنفية، كما يشعر بصعوبة في التنفس نظراً للالتهاب القوي الذي أصاب الحنجرة، أو لوجود تورم بها. أما عند المدخنين، أو من يستخدم صوته بكثرة كالمدرسين وغيرهم، فقد تؤثر بشكل دائم في الحنجرة، مروراً بالإصابة بالالتهاب الرئوي خاصة لدى الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة، إذ ربما يسبب لهم شللاً في الأحبال الصوتية، في جهة معنية أما في الجهة اليمنى أو اليسرى أو كلاهما، وفي تلك الحالة يحتاج المريض إلى مدة علاجية أطول، وبعضهم يتماثل للشفاء، والبعض الآخر لا تعمل أحبالهم الصوتية بكفــــاءتها الطبيعـــية، ففتــرة علاجها تتراوح بين 6 شهور إلى سنة، قد تستجيب فيها للعلاج الدوائي أو قد تعمل بحالة جزئية».
وعن طرق العلاج يردف دكتور عادل المنصوري قائلا: «لا يجدي مع الفيروس المضادات الحيوية بدرجة كبيرة، فيكون العلاج عن طريق إعطاء مواد خفض درجة الحرارة أو التبخير إلى جانب دواء للسعال فقط، كما يحتاج لراحة وتناول مشروبات دافئة وتناول فيتامين «سي» وتقليل الكلام حتى لا تجهد الأحبال الصوتية».
كما ينصح د. عادل بالابتعاد عن الأماكن المزدحمة منعاً لانتشار العدوى الفيروسية، التي تنتقل عن طريق الهواء والرذاذ، وعدم الاختلاط بالأشخاص المصابين.
أما العدوى البكتيرية والفطرية فهي حالات قليلة تصاب بها كمرضى السرطان، الذين يتعرضون للعلاج الكيماوي، ومرضى السكري حيث تقل لديهم المناعة.
الخليج