إبراهيم الملا (دبي)
اختار مهرجان دبي السينمائي أن يفتتح ليالي دورته الثانية عشرة بفيلم مغلق في مضمونه النفسي، ويمكن أن نصفه أيضاً بالفيلم المكثّف على صعيد البناء الدرامي، والذي لا يكاد يغادر حبكته الأساسية، حتى يعود إلى المشهد الرمزي والداكن ذاته الذي انطلق منه. ولعل عنوان الفيلم : «غرفة» للمخرج الأيرلندي ليني إبراهامسون يعزّز وبقوة المناخ العام لقصة تخاطب الطفولة الناقصة لـ «جاك» وهو يحتفل بعيد ميلاده الخامس من دون احتفال مبهر يليق بالمناسبة، ومن دون اجتماع العائلة الكبيرة التي لم يتعرف إليها هذا الطفل المحاصر بالحيرة والغرابة، ولم يكن بإمكانه أيضاً أن يتخيل وجودها في محيطه الخانق والمحاصر بقصص هشّة وكائنات هلامية على الدوام.
يستند الفيلم على رواية بالعنوان ذاته، كتبتها المؤلفة إيما دونوهيو، ووضعت على أساسها سيناريو العمل، وهذا الاقتران أو الاندماج بين النص السينمائي والنص الأدبي بدا متماسكا ومتداخلاً أيضاً من جهة تشخيصه للعلاقة الحميمية والمعقدة في الوقت ذاته بين جاك ووالدته :»ما» ــ الممثلة أبري لارسن ــ والتي نراها طوال النصف الأول من الفيلم وهي ترمّم ما تبقى فيها من أمل للهروب هي وابنها من هذا السجن المنسي، والذي لم تستطع مغادرته منذ سبع سنوات متواصلة.
يشرع الفيلم منذ مشاهده الأولى في التأسيس البصري لكارثة إنسانية محتملة، ويبدأ تدريجياً في الكشف عن معالم المأساة التي يعيشها جاك وأمه في غرفه تخلو تماماً من النوافذ ولا يدخلها الضوء إلاّ من فتحة زجاجية في أعلى السقف بينما الباب الحديدي مغلق بإحكام من خلال أرقام سرية لا يعرفها سوى شخص واحد غريب الأطوار، تنعته الأم بـ « نيك العجوز»، وهو الشخص ذاته الذي اختطف الأم واعتدى عليها منذ سبع سنوات، وفي زياراته الشهرية المحددة إلى المكان يقوم بتزويد الأم وطفلها بالطعام والأدوية والمتطلبات البسيطة، في مقابل إشباع نزواته، بعد أن تغلق الأم دولاب الملابس على جاك، وفي سياق الحوارات الناعمة والصاخبة أيضاً بين الأم وطفلها نكتشف أن الأم لا تستطيع الهرب بسهولة من خلال قتل أو إيذاء: «نيك» لأنه الوحيد القادر على فك شيفرة الباب السري للغرفة.
تناور كاميرا المخرج في هذا الحيّز البصري المعتنى به حدّ الأناقة المروّعة، وتفلح النقلات المشهدية كثيراً في استنطاق الأزمة العميقة التي يعيشها جاك، ويحاول من خلالها تفكيك الوعي المختلط لديه بين الحقيقة والوهم، وبين حدود الممكن ولا نهائية المتخيّل، فمع مرور السنوات السبع تحول المكان المغلق وضمن حدود العشر أقدام التي يشغلها، إلى عالم مزدحم بالتصورات والنماذج حول واقع الأشياء في الخارج، وحول حقيقة ما يدور في الجهة المقابلة من جدار الغرفة، ومن هنا أتى التحدي المشهدي لدى المخرج لصياغة هذا العالم الافتراضي في ذهن الطفل جاك، وفي قدرته على التكيف مع الوجود الواقعي إذا قدّر له يوماً ما الخروج من هذا المعتقل القسري.
تشجع الأم ابنها على القيام بتمارين جسدية، وتحكي له قصصها الذاتية وقصص الشخصيات الخرافية، وتعوّده على أنسنة الأشياء المحيطة به، مثل السرير والمغسلة والكرسي والتلفزيون القديم وحتى المرحاض، كي تخرجه من دائرة العزلة والتكرار، وفي إحدى الحوارات المؤثرة يسأل جاك أمه : «أين تذهب أحلامنا عندما ننام؟»، ومن شدة تعلقه بالصور الافتراضية المتحركة في التلفزيون يجيب هو نفسه: «أعتقد أن أحلامنا تذهب إلى التلفزيون»، وهو حوار يلخص وبعمق حجم المتاهة الداخلية التي يعيشها طفل يريد اكتشاف العالم ولكنه غير قادر أساساً على استيعاب مفردات هذا العالم ولا المقاييس التي تميزه عن العالم البديل المنشغل بتصنيفاته الزائفة والملتبسة.
في النصف الثاني من الفيلم تقرر الأم ــ بعد خوفها الواضح من تعطل النمو الذهني لطفلها ــ القيام بخطوة جدّية للهرب وتخطّي حاجز اليأس، والذي بدا مضاعفاً بعد وصول جاك لسن الخامسة، ومن هنا وانطلاقاً من هذه الرغبة المتأججة في الخلاص، تبدأ الأم في تعليم جاك تكتيكات الهرب، وكيفية التعامل مع الظروف الخارجية، وإخبار أول شخص يلتقيه بمكان الغرفة من خلال ورقة تكتب فيها عنوان الكوخ المهجور، ففي زيارته الروتينية تخبر الأم « نيك العجوز» بأن طفلها يعاني من حمى شديدة وعليه أن يأخذه إلى قسم الطوارئ بالمستشفي، ولكن الأخير يعتذر بخبث، ويقرر أن يحضر له الدواء المناسب في اليوم التالي، ما يضطر الأم في اليوم التالي إلى إدعاء أن طفلها قد مات وعليه أن يتخلص منه، وأن لا يدفنه في الغرفة، لأنها لن تحتمل ذلك، بالفعل يضع «نيك» الطفل وهو مغطى بسجادة المنزل في شاحنته، وحسب تعليمات الأم لطفلها جاك، كان عليه القفز من الشاحنة عند أول إشارة حمراء، وهذا ما يتحقق فعلاً، وعندما يتنبه «نيك» للخطة يتفاجأ بوجود رجل في المكان، حيث يلحّ الرجل على معرفة المشكلة بينهما، ومن شدة ارتباكه يغادر «نيك» الموقع ويترك «جاك» لمصير غامض، وتساهم الشرطة المحلية لاحقاً في فك اللغز المحيط به وإنقاذ الأم بعد تنفيذ طفلها لمعظم التعليمات والتكنيكات التي تدرب عليها طويلاً.
وعلى الرغم من الرعاية الصحية والنفسية التي يلقاها الاثنان في المستشفى، وعلى الرغم من تعرف جاك على جده وجدته، إلا أن الأوضاع في الخارج ستظل متأزمة هي الأخرى، بعد طلاق والدي الأم، ودخولهما في صراع داخلي مدمر، ما يقودها إلى محاولة الانتحار، ولكن يعود طفلها جاك كي ينقذها مجدداً وينتشلها من أزمتها، بعد أن يتجاوز هو الآخر عقبة التكيف مع العالم الجديد، والذي كان أشبه بالسجن الكبير أو الساحة المفتوحة على الشكوك والخوف والنفور من الغرباء.
استطاع فيلم «غرفة» من خلال الأداء الاستثنائي للطفل «جاك» ــ الممثل جيكوب تريمبلي ــ والذي لم يتعد الثامنة من عمره، أن ينقل التفاعلات الدراماتيكية لشخصيات الفيلم إلى مستويات مذهلة من التعبير السينمائي عن حالات وقصص تخترق القشرة الصلبة للواقعية المؤلمة، وتذهب إلى مسارات جديدة من الرصد البصري والتحليل الفني، القادرين في النهاية على تفسير هذا الألم، وتقديمه للمشاهد كمعيار تام لمأساة طفل هجرته الحياة، كي يبحث وحيداً عن براءته المفتقدة.
الاتحاد