أثار اهتمامي ما كشفه أطباء ألمان في مقاطعة كولونيا أن هناك مجموعة من الاعراض المتلازمة التي لا تنطبق على مرض محدد بذاته والتي تنتج عن المضايقات المزمنة من الرؤساء او الزملاء في اماكن العمل ، انه يمكن اعتبارها مرضاً قائماً بذاته مثل أي مرض من أمراض المهنة التي تستوجب التعويض، وأكدت الدراسة ان حوالي 1.5 مليون شخص في بلد متقدم متطور مثل ألمانيا معرضين لمضايقات العمل ولكن في حالة الذهاب للطبيب يتم تشخيص حالته على انه يعاني من "الاكتئاب" أو "القلق" أو اضطرابات في الشخصية ، الأطباء يعانون من وجود عوائق في تشخيص أعراض مضايقات العمل لأن ضحاياها غالباً ما يخفون الأسباب الحقيقية لأمراضهم ويقرون فقط بوجود اضطرابات بدنية مثل فقدان الشهية او اضطرابات في وظائف القلب او المعدة ، وأن "المرضى لا يرغبون في تقديم أنفسهم كضحايا للمضايقة ، حيث ان الكثيرين يعتبرون ان ذلك يحمل تأثيراً سلبياً على مستقبلهم الوظيفي .
في ظل غياب مصطلح تشخيصي للمضايقة في العمل بشكل عام وفي بلادنا تحديدا، كيف يمكن التعامل مع المشكلة ؟ وكأن مضايقات العمل جزء من العمل وضريبة لا مناص منها ! مضايقات العمل تمثل عنفاً حقيقياً يمكن أن يؤثر على أي إنسان" بتقديري ليس شرطاً بان يكون العنف باستخدام القوة او التهديد او ... لأننا نتعامل مع الإنسان أرقى المخلوقات على وجه الأرض والذي نهت الشرائع السماوية والمواثيق الدولية والقوانين عن استعباده او إجباره او إكراهه او تعريضه للضغط او الحرمان او تخويفه أو إيذائه أو تطفيشه من العمل وكأن العمل ملك شخصي او مزرعة خاصة له أو التمييز ضده أوالتشهير به أو تقييد حريته أو حرمانه من حقيقته كإنسان ، حيث لا تجد مجلسا او جلسة الا وتسمع من الحضور الى الكثير الكثير من القصص عن المضايقات التي يتعرض لها الموظفين في العمل ، حتى غدت بيئة العمل غير صحية وغير سليمة ، وتؤدي الى انخفاض حاد في الروح المعنوية للعاملين ، اضافة الى طبيعة التجاوزات التي تشكل خرقا للقانون والنظام ، والتي يفترض ان يحاسب عليها القضاء .
لا بد من وجود تعريف واضح ومحدد لمصطلح مضايقات العمل وتحديد حجم هذه المشكلة وما يقع منها في اطار المسؤولية القانونية والفضائية ، لابد من قيام الحكومة بتعيين مراقب حكومي يتبع للرئيس مباشرة او لرئيس الوزراء ، له طاقم تفتيش ومتابعة للحد من مضايقات العمل أو ان يتم إسناد هذه المهمة بقانون وبنص قانوني صريح وواضح ، وتحويل الشكاوى ذات الطابع الايذائي في مضايقات العمل مباشرة من قبل مفوض عام الشكاوي الى المحاكم ذات الاختصاص و سن قانون خاص مناهضة مضايقات العمل ، بحيث يشتمل القانون على المحاذير وكذلك والغرامات والتعويض لان مضايقات العمل تمثل اهدار للمال العام ، وإضعاف لقيم الانتماء للوظيفة وللعمل وتؤدي الى انخفاض الروح المعنوية والإنتاج واللإنجاز، باعتبار ان مضايقات العمل إهدار للمال العام ، وتقدر تكاليف المضايفات في العمل في ألمانيا على الشركات وقطاع الرعاية الاجتماعية ما بين 13.5 و 45 مليار دولار سنوياً ، في فلسطين نحن بحاجة لكل قرش لبناء الوطن ومؤسساته ومع صعوبة الدخل للفرد والناتج القومي والناتج المحلي الإجمالي وتحقيق التطور والنماء ومع صعوبة الأوضاع الذي نعيشها في فلسطين فان إضافة مضايقات العمل إلى قائمة نكد الاحتلال وممارساته وقمعه وحرية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل وصعوبة الحياة وحالة الفوضى واللامعيارية في اطار الوظيفة ، وتزايد وارتفاع متطلبات الأسرة من المصاريف وارتفاع وغلاء الخدمات المقدمة للمواطن إضافة لبقية الالتزامات هذا يعني أن الموظف المسكين فقط يقوم بتحويل راتبه إلى حساب دفع الفواتير إضافة للحضانات والمدارس الخاصة وفي نهاية المطاف يعاني من مضايقات في العمل ، ولكن وجود قانون يمنع من مضايقات العمل يجعل للعمل طعم أفضل ونفسية أفضل ويقلل من حالات تدني الروح المعنوية وتدني مستوى الإنتاجية والانجاز ومتلازماتها ، لصالح بيئة عمل ايجابية صحية مشجعة مريحة يذهب إليه الموظف وكله دوافع للعمل والانجاز والخدمة العامة وبنفسية سليمة تنعكس على أسرته وعليه وعلى مراجعيه في العمل وعلى علاقته مع زملائه بالعمل بدل أن تكون علاقته مشاحنة وغيرة وحسد عملا بقول سيدنا محمد " لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ... وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره ، لتصبح تعاون وعمل بروح الفريق، الامر الذي نفتقد إليه بالعمل في كثير من مؤسساتنا وأي نفسيه هذه التي يمكن إن تتحمل كل هذه الضغوطات ؟ التي سرعان ما تتحول لسبب أو لأخر لسيل من الانفعالات التي يفرغها أو يفجرها قهرا بزملائه ومرؤوسيه ــــ ويجعلهم يندمون على اليوم الذي عملوا معه ـــ دونما إحساس وبشكل لا إرادي للتنفيس وبشكل خاطئ من الضغوطات المتراكمة التي يعاني منها أو انها تعطل الانجاز ، ويرى الاستاذ المحامي طارق طوقان البرامج الإذاعية الصباحية مثلا والمتعلقة بحل مشاكل وقضايا المواطنين مع الإدارات المختلفة ، تدل على خلل إداري حقيقي في وزاراتنا وفي مؤسساتنا من حيث عدم وجود آليات مؤسسية للشكاوى ومتابعة القضايا العالقة ."، لانه يؤثر على نوعية الخدمات المقدمة للمواطنين .
الصحة النفسية هي جزء من الصحة العامة وبالتالي فان الحفاظ على اجواء وبيئة مناسبة و صحية في العمل هي جزء من استراتيجة الصحة العامة للوطن وخصوصا فيما يتعلق بالمرأة العاملة التي تتعرض لمثل هذه المضايقات ، وان بناء مؤسسات سليمة وقوية وفقاً لأسس سليمة تسامحيه في العلاقة تنمي فيها القيم والأخلاق وحب الخير للغير والتعاون والصدق واحترام القانون وتعزيز الانتماء للوطن وللوظيفة.
ويبين الدكتور كامل المغربي في كتابه مفاهيم وسلوك الفرد والجماعة ، أن الإجهاد يصيب القلب من القلق يؤدي إلى تحسين الأداء حيث انه يعمل على تنشيط مادة الأدرينالين في الجسم أما الاستجابة السلبية (الناجمة عن المضايقات) فإنها تؤدي إلى ظواهر نفسية أو فسيولوجية كالقرحة وحموضة المعدة والصداع والعصبية والانطواء وظواهر السلوك الدفاعي الانفعالي والتبرير للتعويض عن النقص.
ويرى ماكروجر وهو ابرز أنصار الحركة الإنسانية في نظريته "الفلسفة الإدارية" تقوم فلسفته على الافتراض بان كل مدير له فلسفته الخاصة التي يعتنقها المدير تعتبر عاملاً أساسيا في تحديد سلوكه الإداري وبالتالي سلوكه التنظيمي حيث إن كثير من المدراء لا زالوا أسرى للنظرية الكلاسيكية التي تعتمد على أن السلطة هي الوسيلة الوحيدة للتأثير على أعضاء التنظيم وقد وجه لها انتقادات كبيرة أهمها أن السلطة هي واحدة من وسائل التأثير، ولأن البعض لا زالوا اسرى للنظرية الكلاسيكية التي تعتمد على ان السلطة هي الوسيلة الوحيدة للتأثير على الغير وليست احدى الطرق المتوفرة للتأثير في المؤسسة ، فان الامر يجعل طريقة الأدارة موضع سؤال في اطار صلاح الحكم.
في أيامنا هذه تنتشر الأمراض السكوماتية نفسية المنشأ بشكل كبير ، الأمر الذي يتطلب التخفيف من الأعباء وعزل عنصر المضايقات عن الوظيفة والابتعاد عن الاحتراق الوظيفي الذي يسبب الكوابيس وارتجاع الاحداث ومشاكل اضرابات النوم ومشاكل الضغط والنسيان والشعور بالفشل او اسقاط الفشل على غيره ، وعدم الرضا الوظيفي ، والاكتئاب النفسي وامراض القلب والسكري وفقدان الشعور بالسعادة والانهيار العصبي في الحالات الشديدة وتكون بيئة العمل أكثر جذبا وأكثر دفعا معنويا، وحتى يشعر الموظف بالقيمة الإنسانية والاجتماعية للعمل والانجاز .