بقلم: د. حسن أيوب
أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية
حسم الناخبون الإنجليز جدلا ممتدا عبر الزمن وعبر القوى السياسية في المملكة المتحدة بين أنصار الأورَبة (البقاء في الاتحاد الأوروبي)، وبين المنادين بالخروج منه. التوقعات التي سادت قبل انتهاء التصويت وحتى الساعات الأخيرة منه كانت كلها تشير إلى تقارب كبير بين المعسكرين مع رجحان كفة أنصار الأورَبة. وبعكس هذه التوقعات صوت 17.4 مليون (52%) من الناخبين ضد البقاء في الاتحاد الأوروبي، مقابل 16.1 مليون (48%) مع البقاء.
لم تكن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوربي تتمتع بشعبية كبيرة بين البريطانيين، ولكنها وفرت لهم العديد من المكاسب المادية مثل التنقل والعمالة. وعندما قرر رئيس الوزراء حسم الجدل الطويل في داخل معسكر المحافظين عبر الاستفتاء، راهن على أن الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة في بلاده والمزايا التي تقدمها عضوية الاتحاد في هذا المجل ستدفع البريطانيين إلى التصويت ضد الخروج. شجعه على ذلك أيضا تصويت الاسكتلنديين قبل أقل من عام على رفض الاستقلال عن المملكة المتحدة، الأمر الذي يشير إلى المزاج العام في المملكة المتحدة نحو الكيانات فوق-القومية. فما الذي دفع بالناخبين للتصويت لصالح الخروج؟
يمكن القول -بتحفظ في هذه القراءة الأولية- بأن هنالك تداخل لثلاث عوامل شجعت التصويت، الذي قسم البريطانيين إلى نصفين متقاربين حول الموقف من عضوية الاتحاد الأوروبي:
رغم أن عمر الاتحاد الأوروبي يزيد عن الخمسة عقود من العمل الممأسس إلا أنه لم يتمكن حتى الان من التغلب على مسألة الهوية القومية بين ما هو أوروبي، وما هو قومي، وأيهما يعبر عن هوية الأعضاء. فالاتحاد هو حالة خاصة من الاتحادات فلا هو اتحاد كونفدرالي ولم يتمكن من الوصول إلى الفدرالية. ربما هو فدرالية بحكم الأمر الواقع وليس بحكم القانون الأمر الذي أتاح مساحة واسعة للحرية بين أعضاءه لجهة سياساتهم المالية والنقدية والسياسية/الاستراتيجية. نتائج التصويت تشير إلى الانتشار المتسارع والكبير للخطاب والتفكير القومي والشعبوي في دول الاتحاد الأوروبي. لقد رفعت القوى المحافظة التي ضغطت من أجل الاستفتاء شعارات تترجم بوضوح هذه النزعة القومية-الشعبوية: إن شعار "استعادة وطننا" كان الشعار المركزي لهذه القوى. ولم يكن مستهجنا والحال هذه بأن يكون أول تصريح لزعيم "حزب الاستقلال" البريطاني بعد ظهور النتائج يصب في هذا الاتجاه، حيث قال: "لن يجرؤ أحد بعد الان أن يحلم بأن الغروب قد حل على استقلال المملكة المتحدة".
ليس من المستغرب كذلك أن تكون زعيمة المعارضة القومية-اليمينية في فرنسا "ماري جان ماري لوبين" هي أول المصفقين لنتيجة التصويت، وهي صاحبة المواقف اليمينية الشوفينية المعروفة. بعد ساعات قليلة من ظهور النتائج خرجت "لوبين" لتعلن بأن حزبها سيطالب باستفتاء مماثل في فرنسا. في ذات السياق وفي ردة فعل سريعة أعلنت الوزير الأول في الحكومة الاسكتلندية "نيكولا ستيرجيون" أنها ستطرح مجددا موضوع البقاء في المملكة المتحدة للاستفتاء العام.
لا تنفصل النزعات القومية والشعبوية عن متغير اخر يلعب دورا محوريا في تفسير نتائج التصويت وهو الأعداد المتزايدة من المهاجرين إلى المملكة المتحدة. إن شعور البريطانيين المتزايد بالتهديد الذي تتعرض له هويتهم بفعل المهاجرين يدفعهم لاتخاذ مواقف يعتقدون بأنها ستحصن بلادهم بوجه الهجرة عبر الحاجز المائي الذي يفصلهم عن القارة الأوروبية، ما يعيد لهذا الحاجز معناه الجيو-سياسي القديم. لقد شهدت بريطانيا موجات كبيرة من المهاجرين في السنوات الأخيرة (أكثر من 330000 في العام 2015) نصفهم أتوا من دول الاتحاد الأوروبي.
في الحالتين( تصاعد النزعات القومية، وهواجس تهديد الهوية) لقيت دعوات الانفصال دعما كبيرا من أقصى يمين ومن أقصى يسار القوى السياسية في بريطانيا، حيث تسود نزعات قوية ضد العولمة وما تمثله من هيمنة فوق-قومية وكونية، وما تعبر عنه من تحكم السياسة النخبوية بمصائر الأوروبيين وما هو أبعد من الأوروبيين. إن شعارات "استعادة القوة POWER من يد المؤسسة الرسمية" يترجم هذه النزعة، وشكل سندا رئيسيا في تفاوت نسبة التصويت لصالح الخروج من الاتحاد في التقاء منطقي بين أقصى اليمين وأقصى اليسار حول مناهضة الوضع القائم.
فشلت المؤسسة السياسية الرسمية في بريطانيا بإقناع الناخبين بأهمية وفوائد البقاء في الاتحاد. فلا حزب المحافظين قدم مرافعات مجدية، ولا حزب العمال كذلك. مرافعات "دايفيد كاميرون" (رئيس الوزراء) أعطت نتائج عكسية وشجعت على التصويت ضد البقاء في الاتحاد. تركيزه على المكاسب الاقتصادية، وبأن بلاده لن تنضم لمنطقة "اليورو" وبأن بريطانيا لن تغير موقفها من معارضة عضوية تركيا في الاتحاد غذت النزعة القومية، ودفعت الناخبين للتصويت لصالح القائلين بقدرة بريطانيا على الاهتمام بشؤونها بدون الحاجة للاتحاد، وعززت التوجه القومي لديهم. حزب العمال أيضا فشل في إقناع ناخبيه بالتصويت لصالح البقاء في الاتحاد عير المراهنة على ما يمثله البقاء من فرص للطبقة العاملة، الأمر الذي دفع قيادات من الحزب لاعتبار النتيجة كارثية، وبأنها أسوأ ما حل بالبلاد.
يبقى أن نقول في هذه العجالة بأنه سيكون لهذا التصويت نتائج زلزالية. أصبح سؤال مصير الاتحاد الأوروبي برمته موضع تساؤل وشك، إذ إن تصويت البريطانيين قد يكون له أثر الدومينو. فقد أثار هذا التصويت أسئلة جدية حول مدى تماسك الاتحاد كمنظومة وبنى. فالاتحاد هو كتلة واحدة ليبرالية في الجوهر وتقوم على مبدأ تشارك السيادة، وحقيقة كونها عضوا في "منظمة حلف شمال الأطلسي" جعلها ليست مجرد مجموع الدول التي تشكلها، بل إنها كتلة استراتيجية أعادت ترتيب أوروبا باعتبارها بنية متكاملة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إذا ما تركنا جانبا الاثار الاقتصادية والمالية الخطيرة التي سيخلفها تصويت البريطانيين (هبطت بشكل فوري قيمة العملة البريطانية وأسهم شركاتها) والتي ستمتد على مدار سنتين هما المدة المتوقعة لإتمام خروج بريطانيا من الاتحاد، فإن هذا الخروج يلقي بظلال كثيفة من الشك على أحد المبادئ المحورية في عمل الاتحاد وهو مبدأ ال SUBSIDIARUTY والذي يقول بأن القرارت السياسية والسياساتية التي يصعب أن تتخذ في المستويات القومية، تتخذ في المستويات العليا الأوروبية. فهل سيبقى هذا المبدأ فعالا؟ هل سيبقى الاتحاد بعد بريطانيا كما كان في ظل وجودها علما بأن بريطانيا لم تكن دوما عضوا متجاوبا مع تعميق مضامين الاتحاد؟ وكيف سيواجه الاتحاد النزعات القومية والشعبوية المتنامية بين شعوبه في ظل ما يعانيه من مصاعب اقتصادية ومالية؟