بسام الكعبي
إنتصر ميلاد القائد الأممي العملاق الثامن والتسعون (18 تموز 1918) يوم الإثنين الماضي على زمن الغياب منذ ثلاث سنوات في الخامس من كانون أول2013، بقبضة يد يمنى تنبض منذ السابع والعشرين من نيسان 2016 (عيد الحرية) في حي الطيرة غربي رام الله، لعلها تلامس نبض الحياة في خيوط شمس مشرقة، تتجدد صباح كل نهار على تلال جميلة مرتفعة؛ تليق بقائد مسيرة كفاحية صلبة، لم تتراجع ضد العنصرية، ولم ترفع راية بيضاء بمواجهة الكولونيالية الاستيطانية في جنوب افريقيا.
منذ ارتفاعه نجماً في سماء رام الله يوم 27 نيسان، العيد المعتمد لحرية جمهورية جنوب إفريقيا، لم يكف أبناء شعب فلسطين عن زيارة الميدان الذي يحمل إسمه، ويتحصن فيه عملاقاً يتفجر من قلب تمثال برونزي رمادي بارتفاع ستة أمتار، طار من مؤسسة مانديلا في جنوب إفريقيا ليحط وسط الضفة الغربية.
يخطفُ ماديبا يومياً بريق عشرات العدسات المتطايرة من أصابع أبناء شعب فلسطين وضيوفها، حتى بات الميدان الذي يفيض بزهور حمراء جميلة يانعة، يتفجر حضوراً بهياً تحت حواسي أثناء مروري الصباحي والمسائي تحت حكمة بصره وحضور كبرياء قامته. يعلو ماديبا بساحة حرية باتت تستقطبُ ضوء العدسات، وتجدد شغف شعبٍ عربي فلسطيني بالتحرر والخلاص، مستعيداً مسيرة قائد إفريقي فذّ، يساري وأممي وتقدمي، زعيم إشتراكي صلب لم ينكسر، ورفض إدانة كفاحه، وصَمَد في زنزانته ثمانية وعشرين عاماً قابضاً على الجمر، حتى تحرر من قضبان صلبه، وأنتخب رئيساَ، وقاد مسيرة شعبه إلى الخلاص من "الابرتهايد"؛ نظام الفصل العنصري البغيض. وقد شاع القول المأثور في العالم: "فقط في جوهانسبورغ يخرج المناضل من السجن ليصبح رئيساً" يمتلك مواصفات زعيم صلب، واجه بشجاعة مقاتل إرثاً استعمارياً طويلا في بلاده وانتصر عليه؛ ليخطف قوس قزح بريق الهضاب المرتفعة في جنوب إفريقيا؛ على امتداد أكثر من مليون كيلو متر مربع..كيف تمكن الزعيم الإستثنائي من مواجهة كل هذا الإرث الاستعماري الطويل، والانتصار عليه ودحره وتفكيكه؟
هجمة استيطانية غربية
تقع جنوب إفريقيا في أقصى جنوب قارة إفريقيا في نقطة لقاء متفردة تربط المحيطين الهندي والأطلسي على رأس الرجاء الصالح، الممر البحري القديم التاريخي والعريق. تتشكل جنوب إفريقيا من هضبة كبيرة واسعة جداً تبتلع ثلثي مساحة البلاد التي تتجاوز المليون وثلث المليون كيلو متر مربع، وبمعدل ارتفاع يقترب من 1500 متر عن سطح البحر، وتنحدر الهضبة الواسعة تدريجياً نحو الغرب.
سكن البلاد قبل الميلاد صيادو قبائل الخوخو، واهتموا بتربية المواشي التي حصلوا عليها من قبيلة البنتو، وبدأت حياة الصيادين المقيمين بالتغيّر مع وصول المستوطنين الهولنديين سنة 1652، عندما أقاموا جمهورية مستقلة في منطقة الكاب. استولت بريطانيا على مستعمرة الكاب الهولندية سنة 1806، وحكم المستوطنون البريطانيون البلاد بعد جلاء المستوطنين الهولنديين بالقوة العسكرية، وتمددت المستوطنات البريطانية عبر انشاء مستعمرة ناتال سنة 1843، وتمتعت مستعمرة الكاب بالحكم الذاتي سنة 1872 داخل الامبراطورية البريطانية، وتمكن المستعمر البريطاني من هزيمة مملكة الزولو سنة 1879 في معارك طاحنة تواصلت طوال عامين، وحَصد المستعمر نتائج العدوان باستقطاب الهنود للعمل بنظام السخرة في زراعة قصب السكر! وتزامن وصول عمال شبه القارة الهندية مع قدوم أقلية برتغالية سنة 1894، فيما وضعت ناميبيا تحت انتداب جنوب إفريقيا، التي شاركت إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) ليبدأ الحزب الوطني الحاكم بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية بتطبيق سياسة الابرتهايد رسمياً: استخدم المستوطن جان كريستيان سماتس لأول مرة مفردة "الابرتهايد" سنة 1917 في احدى خطبه، وأصبح بعد ذلك رئيساً لوزراء جنوب إفريقيا سنة 1919 عقب استقلالها سنة 1911، وباتت جنوب إفريقيا إحدى دول (الكومنولث) الخاضعة لسيادة الامبراطورية البريطانية.
ومفردة (ابرتهايد) كلمة أفريكانية تعني الفصل، وباتت سياسة رسمية للحزب الأبيض الحاكم منذ 1948، ويستهدف نظام الفصل خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية. التشريعات العنصرية الجديدة لم تسمح للافارقة السود، أصحاب البلاد الأصليين، بالعمل إلا في أعمال محددة وضيعة! وحظرت التشريعات حقهم في الانتخاب والترشح، وحق الملكية، وعزلتهم في مساكن نائية، وتم عزل أماكن عملهم ومدارسهم، وحجزهم في مناطق خاصة بهم، وتقييد حركة مرورهم عبر المناطق المختلفة إلا بتصريح عبور من السلطة البيضاء. لم يسمح للسود بالتواجد في شوارع ومدن مستعمرات الكاب وناتال بعد حلول الظلام! وتقتضي التعليمات "الأمنية" العنصرية بإبراز السود تصاريح مرور في كل وقت لأجهزة الأمن البيضاء! خلق نظام الابرتهايد شبكة سوداء من التعليم المتواضع، ومؤسسات صحية رديئة بمعزل عن الخدمات التعليمية والصحية للبيض، وبالنتيجة حكم منذ بدء تطبيق نظام الفصل العنصري مطلع الخمسينات أربعة ملايين أبيض نحو تسعة وعشرين مليون أسود!
أبدع نظام الابرتهايد في تقسيم الأفراد أيضاً إلى مجموعات عرقية: بيض، سود، ملونين، أسيويين، وتم الفصل بينهم في معازل (بانتوستونات) ذات سيادة وهمية، وتشبه إلى حد كبير محميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الاميركية!
تنقسم جمهورية إفريقيا إلى أربع ولايات: الكاب، أورنج، نتال، ترنسفال، وتتضمن أهم ثلاث مدن: دوربان، جوهانسبرغ وبورت اليزابيث، فيما يتوزع السكان على ثلاثة عرقيات أساسية مختلفة ومتناحرة شكلت في مجموعها قوس قزح جديد: المجموعة الأولى؛ البيض (5 مليون نسمة) ينحدرون من ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، هولندا والبرتغال، واستوطنوا البلاد خلال حقبات الاحتلال المختلفة، وشكلوا قومية أطلق عليها (الافريكان) وتمكنوا من "نحت" لغة مشتقة من الهولندية ممزوجة بمفردات ومصطلحات ألمانية وإنجليزية، وباتت تعرف باللغة الافريكانية، فيما تنتشر مجموعة من اللغات الاثنية الرسمية في البلاد؛ خوسة، سوازيه، تسونغه، تسوانه، فينده، وغيرها من اللغات المتداولة على نطاق ضيق. المجموعة الثانية؛ الملونون الآسيويون (4 ملايين نسمة) خليط من عنصر إفريقي تزاوج مع طلائع المستعمرين الاوروبيين، وخليط آخر نتج عن تزاوج الأسيويين المهاجرين من ماليزيا، الهند والباكستان بالأوروبيين. المجموعة الثالثة؛ قبائل البانتو السوداء (24 مليون نسمة) تتعدد عرقيات القبائل كثيراً لكن أبرز تشكيل هذه المجموعة يرتبط بشعب الزولو، وتبرز منها مجموعات نجوني، تسونغا، السوازي.
رحلة الحرية طويلة وشاقة
باتت جنوب إفريقيا من أكثر الدول تنوعاً في القارة الافريقية، لأنها تمتلك أكبر عدد بشري من ذوي الأصول الأوروبية في قارة إفريقيا، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، وأكبر مجتمع ملون في القارة نتيجة اختلاط الزواج، ولذلك تم اعتماد علم جنوب إفريقيا بألوانه الستة رسمياً يوم السابع والعشرين من نيسان ابريل 1994، وسجل باعتباره عيد الحرية في جنوب إفريقيا، وحل العلم الجديد بدل العلم العنصري القديم. ترمز الألوان الستة إلى مختلف الاتجاهات السياسية للبلاد، وتبشر بالموارد الطبيعية لبلاد غنية بثرواتها، ووظف العلم الجديد ببراعة الألوان التي أستخدمت في أعلام البلاد على مرّ تاريخها الطويل والعريق.
لم تشهد جنوب إفريقيا انقلاباً واحداً على الحكم، وفي عهد انتصار مانديلا، باتت البلاد تنظم انتخابات نزيهة منذ سنة 1994، ما يجعلها قوة مؤثرة في المنطقة، وواحدة من أكثر الديمقراطيات استقراراً في القارة الافريقية، رغم التنوع العرقي الهائل الذي يعيش بتوازن نسبي، ويتجنب عموماً فكرة الانفصال، وإن كانت تراود حركات يمينية انفصالية عرقية مهمشة، تحاول جهدها انتزاع "الاستقلال" بتحريض عنصري..ورغم ثقل هذا الإرث الاستعماري الاستيطاني العنصري في حقباته التاريخية الطويلة، إلا أن الزعيم مانديلا تمكن من انتزاع حرية شعبه الأسود المضَطَهد عبر قرون عدة، وأثبت ماديبا أن انتصار الشعوب على الاستيطان قاب قوسين أو أدنى إذا التقطت شروط الانتصار، وسجل الفتى المشاكس بأحرف من نور مسيرة كفاحه الشاقة في سفر التاريخ، وسيتغلب حضور الزاهد المعنوي الأسطوري على لحظة غياب جسده ليعلق طويلا في وجدان الأحرار.
شهد نظام الفصل العنصري منذ الستينات موجة من الاعتراضات الدولية، وبدا واضحاً أن انهيار نظام الفصل العنصري مسألة وقت، وبخاصة مع توسع رقعة نبذ دولة جنوب إفريقيا العنصرية ومقاطعتها من قبل غالبية دول العالم، واشتداد معارضة داخلية بمواجهة بطش السلطة العنصرية، وقد أدى تحالف الضغط الخارجي والداخلي إلى قيام الرئيس دي كليرك مطلع التسعينات بالاستسلام ورفع راية بيضاء؛ معلناً نهاية حقبة "الأبرتهايد"، وتفكيك نظام الفصل العنصري.
حرية ينتزعها رمح الأمة
سَجل مانديلا تجربته الكفاحية بعنوان (رحلتي الطويلة إلى الحرية) وصدرت باللغة الانجليزية سنة1994، وترجمها إلى العربية الكاتب عاشور الشامس سنة 1998، وتحولت مذكراته إلى فيلم سينمائي بتوقيع جستن تشادويك، وعرض لأول مرة في مهرجان تورنتو السينمائي (كندا) مطلع أيلول 2013 قبل رحيل مانديلا بثلاثة أشهر. لعب الممثل إدريس إلبا دور البطل، ووضع السيناريو وليام نيكلسون. رصد الفيلم نشأة الزعيم ماديبا، وتمرده، وتعلمه، وكفاحه، حتى تسلّم منصب رئيس جنوب افريقيا كأول رئيس أسود في تاريخها الطويل.
إعترف الفتى المشاكس في مذكراته بعدم إخلاصه لزوجته الأولى إيفيلين ماس قائلاً: "أنا رجل عادي يحفل سجله الشخصي بنقاط ضعف". مانديلا الأسطورة فكك عالمه السري الشخصي، وسكبه دون زيف تحت بصر قارئ الكتاب، وكشف أيقونة النضال كل أسراره الحقيقية بتواضع مدهش، ولم يصنع تاريخاً أخلاقياً مزيفاً لمسيرته العظيمة، وتصدى للازدواجية التي تحكم معظم الشخصيات العامة والبارزة: سلوك أخلاقي في العلن والانزياح عنه في السر!
ولد نيلسون مانديلا يوم 18 تموز 1918 في قرية (مافتيزو) بإسم (روليهلا هلا) وتعني نازع الأغصان من الشجر، وبالعامية (الفتى المشاكس). تنفس الرضيع على ضفة نهر أمباشي في إقليم ترانسكاي لقبيلة (الطهوسا) التي تنتمي لها عشيرته (ماديبا). كان أصغر إخوته ويحمل رقم 13 لأن والده تزوج من أربع نساء، كانت أمه (نوزاكيني فاني) الثالثة بينهن.
فصل مانديلا من الجامعة سنة1940 بتهم الاشتراك في إضراب طلابي بمواجهة نظام الفصل العنصري، وعاش مرحلة قاسية من الملاحقات الأمنية أثناء الدراسة الجامعية. تنقل بين العديد من الجامعات قبل التحاقه بالمجلس الافريقي الوطني سنة 1942، وكانت المنظمة تدعو سلمياً للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء، لكن تعرض المتظاهرين المسالمين إلى مذبحة في شوارع شاربفيل عام 1960، وقد ذهب ضحيتها 69 من فقراء السود غيّر معادلة المواجهة: قرر مانديلا وبعض زعماء المجلس الوطني الافريقي إطلاق المقاومة المسلحة، وتشكيل ذراعها العسكري (اوخونتو وي سيزوي) وتعني بالحرف (رمح الأمة) وذلك بالتعاون مع قادة الحزب الشيوعي، ونفذ الجناح المسلح مجموعة من العمليات العسكرية استهدفت البنية المدنية والعسكرية العنصرية.
قبل اعتقاله سافر متخفياً لحضور اجتماع حركة الحرية الافريقية المنعقد في أديس أبابا (أثيوبيا) باعتباره مندوباً لحزب المؤتمر الوطني. التقى الرئيس الأثيوبي هيلا سيلاسي الأول، ثم سافر إلى القاهرة مبدياً إعجابه بالاصلاحات السياسية للرئيس العربي المصري جمال عبد الناصر، والتقى في تونس الرئيس الحبيب بورقيبه، وتابع جولته في المغرب، مالي، غينيا، سيراليون، ليبيريا، السنغال، ثم طار إلى لندن للقاء نشطاء يساريين مناهضين لنظام الفصل العنصري، قبل عودته إلى وطنه بطريقة سرية واعتقاله.
المؤبد بتهمة "الخيانة"!
اعتقل في شباط 1962 وحكم بالسجن مدى الحياة بتهمة "الخيانة العظمى" والتخطيط لعمل مسلح! قضى 28 سنة في سجون النظام العنصري، منها عشرين عاماً في زنزانة معزولة وسط جزيرة روبن ايلاند. نقل سنة 1982 إلى سجن بولسمور، ورفض بين جدرانه عرضاً للرئيس بوتا سنة 1985باطلاق سراحه مقابل إدانة المقاومة المسلحة، رغم أن العنصري بوتا اعتبر مانديلا "ماركسياً متشدداً وخطيراً"! أصدر الفتى المشاكس بياناً أكد فيه أن الأحرار يمكنهم التفاوض، لكن الأسرى لا يمكنهم التدخل في صياغة الاتفاقيات. نقل سنة 1988 إلى سجن فيكتور فيرستر في كيب تاون مع كبار قادة حزب المؤتمر الوطني، ورفضت السلطة البيضاء الحاكمة خروجه للمشاركة في تشييع جثمان والده ثم نجله البكر لدى رحيلهما، وظل في المعتقل حتى انتزع حريته يوم الحادي عشر من شباط 1990؛ بضغط حملة دولية نشطت لاطلاق سراحه وسط حرب أهلية متصاعدة، وقاد المفاوضات مع الرئيس الأبيض الجديد دي كليرك من أجل إلغاء نظام الفصل العنصري. شغل رئيس المجلس الوطني الافريقي سنة 1991، وعرض حكومة ائتلافية لمدة خمس سنوات، ودستور انتقالي ومحكمة دستورية وفصل بين السلطات الثلاث. انهارت الحكومة الائتلافية سنة 1994 بفعل المذابح التي نفذتها عصابات (انكاثا) ضد نشطاء حزب المؤتمر الوطني بمساندة حكومة دي كليرك. وتعرف (الانكاثا) بأنها مجموعة عرقية سوداء انفصالية ويمينية متطرفة، واستخدمها الحاكم الأبيض ببراعة ضد السود! جرت الانتخابات العامة سنة 1994 وانتزع فيها حزب المؤتمر الوطني أغلبية المقاعد، وفاز مانديلا بالرئاسة، وتم تعيين دي كليرك نائباً له، لكن نائب الرئيس انسحب عام 1996 فاحتل مبيكي منصبه. قدم مانديلا خطاب الوداع في 29 آذار 1999 وتقاعد رافضاً نداء شعبه وضغط كل منظماته الشعبية بتمديد ولاية ثانية في منصبه..وتحول إلى مواطن عادي دون سلطات في خطوة استثنائية ونادرة في العالم الثالث.
أنشأ سنة 1999 مؤسسة مانديلا لمكافحة الايدز وتحقيق التنمية الريفية وبناء المدارس، وعارض تدخل حلف شمال الأطلسي في حرب كوسوفو محذراً الدول القوية من إداء دور الشرطي على العالم. زار في نهاية ولايته قطاع غزة، وطالب إسرائيل الانسحاب من الأراضي المحتلة، وقارن بين نضال الشعب الفلسطيني ونضال السود في جنوب افريقيا، وظل وفياً لكفاح الشعب الفلسطيني، وطالب سنة 2010 بوضع حد للحصار الإسرائيلي الذي يستهدف أبناء القطاع.
عارض العدوان الأميركي البريطاني سنة 2003 على العراق، وشكل في تموز 2007 مجلس حكماء العالم برئاسة صديقه ديزموند توتو، وعضوية كوفي عنان وآخرين؛ لتشجيع التفاوض "حيث يدور الصراع، واعطاء الأمل حيث ينتشر اليأس".
تزوج سنة 1998، في عيد ميلاده الثمانين، للمرة الثالثة من غراسا ماشيل أرملة رئيس الموزامبيق سامورا ماشيل حليف حزب المؤتمر الوطني، وقتيل حادث الطائرة الرئاسية سنة 1986. للراحل مانديلا من زوجتيه السابقتبن ايفلين وويني ستة أبناء وسبعة عشر حفيداً.
بندقية مانديلا
عرض مؤخراً مهرجان كان السينمائي (جنوب فرنسا) فيلماً للمخرج البريطاني جون إيرفن بعنوان (بندقية مانديلا) تناول الأشهر الأخيرة في كفاح مانديلا قبل اعتقاله. وعلى هامش الفيلم تفاعلت الاعترافات الخطيرة التي كشفها دونالد ريكارد نائب القنصل الأمريكي في دوربان وعميل المخابرات الأميركية السابق حتى العام 1978، وباح بها إلى المخرج إيرفين في آذار 2016 قبل أسبوعين من رحيل ريكارد تحت ضغط تأنيب الضمير: "اعتقل مانديلا بينما كان يتنقل بين دوربان وجوهانسبرغ. علمتُ متى سيأتي؟ تدخلتُ وتم اعتقال مانديلا". "وبرر" ريكارد عملية الاعتقال: كان مانديلا تحت السيطرة الكاملة للاتحاد السوفياتي، وكان يمكن أن يحرض على حرب في جنوب افريقيا، وكان يتعين على الولايات المتحدة أن تتدخل حتى لا تسوء الأمور بشكل كبير. لقد كنا على الحافة، كان يجب وقف الأمر واحتجاز مانديلا. أنا أوقفته"! وأسهمتْ الاعترافات التي تناقلتها الصحافة العالمية في فضح السياسة الأميركية وتوفير دعاية مجانية لفيلم (بندقية مانديلا).
ماريكانا: ندبة سوداء!
قبل رحيله بخمسة عشر شهراً، شهد مانديلا بحزن أثناء مرضه مذبحة ماريكانا أواسط آب 2012، وذهب ضحيتها 44 عاملا أسود برصاص شرطة حكومية، حاولت كسر إضراب عمال منجم بلاتين تملكه شركة (لونمين) المتنفذة، وأصابت 78 عاملا بجروح، واعتقلت 270 من نشطاء عمال أعلنوا إضراباً عن العمل في المنجم؛ احتجاجاً على استغلالهم وتآكل رواتبهم. كشفت المذبحة مستوى الفساد في حكومة جاكوب زوما، الرئيس الثالث لجمهورية جنوب إفريقيا بعد تحررها من العنصرية، وقد تسلم السلطة سنة 2009 وأعتبر أحد القادة السابقين للحزب الشيوعي، والرئيس الحالي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم.
حذرت مذبحة ماريكانا من مخاطر انفكاك الطبقات الوسطى عن قاعدة حزب المؤتمر الوطني، وكشفت تشكل شريحة طبقية جديدة بطبعة سوداء أحكمت قبضتها الصلبة على الحكم، ولمحتْ إلى خطورة استبدال أداة قمع بيضاء بأخرى سوداء، أو على وجه الدقة خطر استبدال شرطي أبيض بأخر أسود! وقد حذر المناضل المرموق فرانز فانون من مخاطر تزييف انتصار حركة التحرر الوطني. الطبيب فانون ينحدر من جزر المارتنيك (أميركا اللاتينية) تحت هيمنة فرنسا، وقد تنازل عن جنسيته الفرنسية والتحق بجبهة التحرير الجزائرية أواسط الخمسينات. أصدر كتابه الشهير (معذبو الأرض) سنة 1961 وقد تنبأ فيه بإمكانية تغيّر سلوك بعض قيادة حركة التحرر الوطني لدى تسلم السلطة، عبر مواجهة اضرابات عمال يطالبون بحقوقهم؛ وبدا الأمر جلياً في مناجم بلاتين ماريكانا (جنوب افريقيا) وقد راكم أصحاب المنجم المتنفذين ثروات هائلة، باتت تتقاسمها نخبة سوداء جديدة في السلطة قديمة في حركة التحرر الوطني!
يطلُ قوس قزح الذي يعكس تنوع الشعب المكافح من علم جنوب إفريقيا الذي يعلو فوق ساحة مانديلا في حي الطيرة، وقد نقشت على أرضية الميدان تحت نصب التمثال المرتفع بقبضة يد ماديبا العالية، جملة رصينة عميقة من خطاب الرئيس مانديلا كرر فيه سنة 1997 موقفه الثابت والمطلق حيال نضال الشعب العربي الفلسطيني وحقه بالتحرر والاستقلال: "نحن نعلم أن حريتنا ناقصة دون حرية شعب فلسطين". المجد لأيقونة كفاحية احتفلت بعيد ميلادها الثامن والتسعين الاثنين الماضي (18 تموز) أيقونة ستظل حاضرة لتعزز نضال آخر ما تبقى من حركات تحرر وطني في العالم، وتشحذ كفاح العمال والفقراء؛ من أجل انتزاع حقوقهم الديمقراطية في المساواة، وعدالة توزيع ثروات البلاد؛ حفاظاً على توازن السلم الأهلي، وكبح موجات غضب تدفع لانفجارات؛ ربما لأنها تتراكم بصمت ونفس طويل، تحت سطح يبدو بارداً ويمتلك براعة خدع المراقب للوهلة الأولى.