بملامح حزينة وتنهيدة طويلة وحسرة بادي، يبدأ الحديث عن قصة زواجه ويكشف شكلاً جديدا ًمن أشكال التعذيب التي يُمارسها الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني .
الأسير باجس يونس حسين عمرو ابن 33 عاماً من مدينة الخليل، يقول: 22 يوماً كانت الأحلى في سجل حياتي وما زالت الأنقى في تاريخ ذكرياتي، أيامٌ قليلةٌ أتيحت لي في ظل عش الزوجية الهانئ، شعرت خلالها أنني أسعد إنسانٍ على وجه الأرض، إلى أن امتدت اليد الآثمة المعتدية لتزج بي خلف القضبان ولأجد نفسي فجأة بين ذئابٍ لا ترحم وقد فقدت عروسي التي غمرتني بالحب والرحمة والعواطف الدافئة.
وهنا يتوقف الأسير عن الحديث والغضب يملؤه والحزن يرتسم على محياه وأطلق آهةً من أعماق صدره , ويضيف قائلاً:لقد سرقوا فرحتي وعكروا صفو أيامي الرائقة، وكم كنت انتظرت تلك اللحظات بفارغ الصبر ولكن للأسف الشديد ما إن ضحكت لي الدنيا واجتمعت بمليكتي التي غيرت دنياي ولونتها بالسعادة حتى خسرت كل ذلك.
ويتحدث بمرارةٍ كان أسري الأخير مختلفاً، لم أختبر هذا الألم في اعتقالي السابق حيث كنت أعزبا ً هذه المرة كان قلبي معلقاً ومأخوذاً بسحر عروسي ) لذلك صعب الأمر علي فليس من السهل على الإنسان أن ينتقل فجأة من قمة الفرح إلى قمة التعاسة والألم.
اعتقل بطل قصتنا الأسير باجس عمرو سابقاً قبل اعتقاله الحالي، وأمضى في سجون الاحتلال حينها سنة ونصف، وما أن أفرج عنه حتى استأنف تأسيس مستقبله وتحقيق طموحاته فعمل مع والده إلى جانب عمله كمدرس للغة الإنجليزية، وبعد كثير من العناء والكد أكمل بناء شقته وأعدّها لاستقبال فتاة أحلامه التي ملكت عليه قلبه، وما أن اقترن بها وسكن إليها واستأنس كلٌ منهما بالآخر حتى اغتيلت مسراتهما ووجد باجس نفسه في انتقل من غرفة الرحيق إلى غرفة التحقيق، وابتعد عن اليد الرقيقة التي تمسح على جبهته مسريةً عنه ليقع بين أيدٍ غليظةٍ تهزه بعنف ووحشية لتنزع الاعتراف منه.
ويضيف باجس صدمت في البداية إذ لم أتوقع اعتقالي في خضم شهر العسل، وآلمني جداً غياب عروسي التي لم أكحل عيني بها بعد وكنت كالعطشان الذي خطفت من يده كأس الماء.
إن المتتبع لشؤون الأسرى يجد أن الاحتلال يتعمد في كثير من الأحيان اعتقال العرسان الفلسطينيين في سياسةٍ واضحةٍ وعدوانٍ سافرٍ للنيل من إرادتهم وعزائمهم والتأثير على روحهم المعنوية وإمعاناً في إيذائهم. وقد عرف عنه التفنن في هذا المجال، والحالات الشاهدة على ذلك كثيرةٌ جداً، فمن الأسرى من يعتقل أثناء التجهيزات الأخيرة لحفل الزفاف، ومنهم من يعتقل ليلة الدخلة، ومنهم من يعتقل بعد أيام من الزواج. وكل ذلك ليس من قبيل الصدفة بل من خلال تخطيط مسبق وسياسةٍ ممنهجة. ينفذ الاحتلال هذه الاعتقالات التعسفية حسب ما يحلو له دون الأخذ بأي اعتبار إنساني كان. وتشهد قلاع الأسر العديد من الشبان الذين خبروا هذه التجربة، الذين اجتثوا من أحضان شهر العسل ليقضوا بعدها شهوراً وسنوات خلف الجدران الضيقة يتجرعون مرارة البعد عن أحبائهم في غياهب السجون. ويستطرد الأسير باجس، بعد خمس سنوات ونصف من الأسر ما زلت اتعرف على زوجتي وأحاول أن أنتهز كل فرصةٍ تتاح لي لاكتشف الانسانة اللطيفة التي حرموني منها لأنضر وأجمل أيام العمر.
والجدير بالذكر أن باجس ككثير من الأسرى يحرم من زيارة زوجته لدواعٍ أمنية، وتمنح زوجته في أحسن الأحوال تصريحاً لزيارته كل سنة ولمرة واحدة. ويستكمل حديثهُ قائلاً: لا يمكن أن تغنيني 45 دقيقة وهي وقت الزيارة، علماً أنه يفصل بيني وبين زوجتي زجاجٌ غليظٌ بارد، ويقف السجان رقيب علينا وحارساً، وأي حديثٍ يمكن أن يقال في ظل صخب الزائرين وعيون الرقباء، والحقيقة أن العيون والقلوب هي التي تقول كل شيء وتعبر عن كل شوق. وكما أن العريس الأسير لا يتسنى له التعرف على زوجته فهي كذلك الأمر لا يتسنى لها التعرف عليه.
وفي ذلك يضيف باجس موضحاً: أحرص على أن تعرفني شريكة حياتي وأم أولادي مستقبلاً لذلك كنت أكثر من إرسال الرسائل قبل توفر الاتصالات الممنوعة، وكانت رسائلي فلذة من قلبي فيها مشاعري وأشواقي، وكانت كذلك صورة من عقلي فيها رؤاي وأفكاري وتصوراتي، وكانت أيضاً نبذة عن أحلامي ومشاريعي التي أود أن تشاركني بها زوجتي بعد تحرري. فرسائلي باختصار تعكس جوانبا ًمن مكونات شخصيتي. وقد علمت من زوجتي أنها تحتفظ بها ككنز ثمين وتقوم بنثرها كل شهر وتقرؤها واحدةً واحدة في طقوسٍ شاعريةٍ خاصة، ولا تتركها إلا وقد بللتها بالدمع.
حكمت محكمة الاحتلال على الأسير باجس عمرو بالسجن لثماني سنوات يقضيها في ظروف صعبة من المشقة والحرمان، ولكنه برغم ذلك قوي الإرادة عال الهمة مفعم بالأمل، يقضي وقته في العلم والكتابة ويعطي دوراتٍ في اللغة الانجليزية لإخوانه في سجون الاحتلال. وهو بالاضافة إلى ذلك طيب المعشر دمث الأخلاق وودود يحبه إخوانه الأسرى ويقدرونه.
ويكمل أبا يونس ( باجس عمرو بقوله: اتطلع لفجر الحرية؛ حرية شعبي وحرية الأسرى وأتوق إلى اللقاء بعائلتي العزيزة وإلى لم شملي بزوجتي الغالية، فهي آمالي الحلوة وغدي الجميل وأود أن أعوضها عن سنوات الانتظار المعذبة وعن كل قطرة دمع ذرفتها جراء الفراق. ويختم بإصرارٍ وثقةٍ ويقين، سأزف من جديد لزوجتي بإذن الله وستكون ملء قلبي وسمعي وبصري، وستملأ بيتي بالزهر والبهجة والأولاد.
بقلم الأسير ( عمر عطاطرة )
سجن النقب الصحراوي ..