الرئيسية / ثقافة وأدب
الغائب عبد اللطيف عقل: شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر
تاريخ النشر: الأربعاء 31/08/2016 08:43
الغائب عبد اللطيف عقل: شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر
الغائب عبد اللطيف عقل: شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر

 بسام الكعبي

الجزء الثاني والأخير

شَكَلتْ المحطات المفصليّة في حياته المبكرة، مسيرة شاعر بارع وأستاذ فلسفة فذّ؛ رغم رحلته القصيرة (1942- 26 آب 1993) التي بالكاد تجاوزت الخمسين عاماً بأشهر قليلة..كيف نهض الشاعر من الرماد؟ وكيف إنتصر على قسوة ظروفه؟ وقد بَرَع الأساتذة الثلاثة الكبار: عبد الكريم أبو خشان، عيسى أبو شمسية ومحمود العطشان؛ في التقاط جذر التشكيل الأساس، وعناصر الاندفاع الأولى في مستهل جلسة من المحاورات الست؛ وقد أطلوا فيها على عمق الشاعر الكبير، ومهروا كتاباً أدبياً قيّماً أبرز مهارة المبدع في بناء أدوات الشعر، ونظرياته، وصوره، وبلاغته، وفن حبكة النصوص، وبراعة كتابات عقل الفلسفية والمسرحية.

                                        اليتيم المتفوق                      

توفي والده عطا سليمان عقل مطلع آذار 1948 قبل أن يتجاوز آخر العنقود السادسة من عمره، وترك  الراحل خلفه أرملة، تزوجت لاحقاً، وثلاثة أبناء وثلاث بنات أصغرهم اليتيم عبد اللطيف. للأخت الكبرى المتزوجة أبناء من جيل عبد اللطيف؛ كان الصغير يلعب معهم، فيما الشقيقتان متزوجتان أيضاً ولهما أبناء أصغر سناً. علم في وقت متأخر أن الإسم الحقيقي لشقيقه سليمان هو راشد، ولم يعرف مطلقاً أن عيسى خطف الإسم الحقيقي لشقيقه الثاني محمد، إلا في وقت متأخر جداً.

دَخل عبد اللطيف سنة 1949 الصف الأول ابتدائي في قرية ديراستيا على بُعد ثلاثين كيلو متراً جنوب غربي نابلس؛ بناء على شهادة تقدير سن منحها أحد أطباء المدينة؛ تفيد بأنه في السابعة من العمر، علماً أنه لم يتجاوز الخامسة ومن مواليد 1942. وفَرتْ شهادة الطبيب فرصة مبكرة لدخوله الأول إبتدائي ومنافسته لزملائه في الدراسة وتفوقه عليهم. تأثر الطالب في المرحلة الإعدادية بطريقة إلقاء أستاذه محمد عبود أبو حجلة للشعر، وبالذات قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة. كان المدرس يغني القصيدة وينغّم فيها، ما ترك أثراً في نفس طالب أبدى إهتماماً بالقصائد، وإنتظم بالتردد على مكتبة فقيرة للمدرسة؛ بحثاً عن دواوين شعر، ثم أطلع زملاءه مبكراً على قصيدته الأولى، ليطلب منه المعلم أبو حجلة إلقاء أبياتها أمام  طلبة مدرسة دير استيا الإعدادية.

انتقل إلى المدرسة الثانوية في سلفيت سنة 1958، وبعد شهرين من دراسته في الصف الأول ثانوي، اعتقله الأمن الأردني بتهمة حيازة منشورات شيوعية؛ كان ينوي تهريبها إلى شقيقه محمد الذي انخرط في الحزب الشيوعي الأردني منذ تأسيسه عام 1951. تعرض الفتى للضرب، واحتجز مع شقيقه وستين رفيقاً شيوعياً في سجن نابلس المركزي، ثم أطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر بسبب صغر سنه، وكفالة عمه، وعدم ثبوت التهمة عليه، وتحمل شقيقه مسؤولية الإنتماء للحزب. عاد إلى ديراستيا وعاش أصعب أيامه في الكسارات والأعمال الشاقة، بينما قضى شقيقه محمد سنوات طويلة في معتقل الجفر الأردني قبل تحرره من السجن مطلع نيسان 1965، عندما كان  عبد اللطيف ينهي سنته الأخيرة في جامعة دمشق، ولم يلتقِ الشقيقان طوال ثماني سنوات. لم تنته معاناة شقيقه محمد مع نهاية الحقبة الأردنية؛ فقد أعتقل إدارياً في سجون الاحتلال أواسط السبعينات، وقضى ثلاث سنوات ونصف بذريعة الانتماء للجبهة الوطنية. رحل محمد عقل (أبو عطا) منذ سنوات بعد توثيق تجربة اعتقاله في سجن الجفر الصحراوي؛ وقد صدرت في كتاب قيّم مع تجارب أخرى لمجموعة من معتقلي الجفر.

أبدى عبد اللطيف إهتماماً مبكراً  بنشاط الحزب الشيوعي الأردني منذ أواسط الخمسينات، وتأثر برؤيته وفلسفته وتحليلاته الطبقية، واقتنع كفقير بفكرة شقيقه أن الشيوعية تمتلك قدرة على مواجهة الجوع، وتخليص المعدمين منه، بدليل أن الاتحاد السوفياتي الشيوعي يوفر العلاج والعمل والدراسة للكادحين..سَيّطرتْ الفكرة المثالية على عقل الفتى، وغاب عنه مستوى التعارض بين فكرة فلسفية مثالية، وإمكانية تطبيقها  بمعزل عن سطوة أداة دولة طبقية مهما تعددت طبعاتها.

منحة الفلسفة

تمكن شقيقه سليمان، أحد جنود الجيش الأردني، من تسجيله بواسطة ضابط في كلية فيصل الثاني التابعة للجيش والقائمة شرقي مدينة الزرقاء. واظب عبد اللطيف على الدراسة فيها، وتقدم لامتحان الثانوية سنة 1962 وحصل على الترتيب الثامن على مستوى المملكة الأردنية، ونال منحة لدراسة الفلسفة في جامعة دمشق، وإنكب على المراجع في المكتبة الظاهرية، وحصل سنة 1966 على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من دائرة الفلسفة في كلية آداب جامعة دمشق.

عاد إلى عمان ولم يتمكن من الالتحاق بوظيفته كمعيد في الجامعة الأردنية؛ لأنه فشل في الحصول على "شهادة حُسن سلوك" أردنية. اشتغل معلماً للفلسفة في مدارس طوباس ونابلس قبل الاحتلال، وواصل وظيفته كمعلم للفلسفة بعد الاحتلال، وعمل محاضراً غير متفرغ في جامعة بيت لحم (1973- 1975). نال درجة الماجستير من جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة سنة 1980 وعاد للعمل سنة 1981 مع أسرة جامعة بيت لحم، ثم غادر لاستكمال دراسته العليا وحصل على شهادة الدكتوراه في علم النفس التجريبي من جامعة هيوستن عام 1983. يُسجل للمفكر والشاعر عقل أنه إعتمد على موهبته وقدراته الذاتية من أجل انتزاع التفوق، ولم يكن يوماً نتاج أية سلطة، وظل نقدياً برؤية فلسفية حتى الرمق الأخير.

تزوج للمرة الأولى سنة 1968 وانفصل عام 1972 دون أن ينجب الطليقان أطفالا، ثم تزوج سنة 1980 وغادر برفقة زوجته إلى مدينة هيوستن جنوب الولايات المتحدة، ورزق بإبنتيه التوأم ليلى وسلمى عام 1981، ثم ولده الطيب سنة 1984، ورزق بإبنته جفرا في الأردن عام 1990.

إبداع وتنوّع

أصدر الشاعر مجموعة من النصوص المسرحية: المفتاح (1976). العرس (1980). تشريقة بني مازن (1985). البلاد طلبت أهلها (1989). الحَجر في مطرحو قنطار (1990). محاكمة فنس بن شعفاط ( 1991). وصدرت مجموعة من مقالاته في كتابين: (سر العصفور الأزرق كالدم) سنة 1985 و (الشلام عليكم) سنة2007. أصدر أيضاً كتابين في الحقل الأكاديمي: علم النفس الاجتماعي (1985) والاهدار التربوي (1983).

 تعاون اتحاد كتّاب فلسطين مع بيت الشعر لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة للراحل عقل، وجاءت في مجلدين: الأول جاء في 500 صفحة من القطع المتوسط وتضمن الدواوين: شواطئ القمر (1964). أغاني القمة والقاع (1972). هي أو الموت (1973). قصائد عن حب لا يعرف الرحمة (1975).  وقع المجلد الثاني في (430) صفحة وتضمن الدواوين : الأطفال يطاردون الجراد (1976). حوارية الحزن الواحد (1985). الحسن بن زريق ما زال يرحل (1986). بيان العار والرجوع (1992). التوبة عن التوبة (2006).

 وجاء تقديم الشاعر مراد السوداني رئيس إتحاد الكُتاب للأعمال الكاملة تحت عنوان (عبد اللطيف عقل، شاعر السقيفة وناي الأرض المحتلة) : "إنه المبدع اليتيم والغريب الصلب المتمرّد عبد اللطيف عقل، الذي خذله المشتغلون بالشأن الثقافي وحاصروه وأنكروه حيّاً ومَيْتاً، ولكنّه ينهض قولة عالياً وشجراً محارباً ومواويل لافحة بحجم صمودنا العَفِيْ والكلام العَلِيْ ..استطاع الفيلسوف الطافح بالبلاد، بجدارة وتمكُّن لافتين أن يفكّك الواقع والوقائع ويغوص في تفاصيل اليومي وهوامش هذه الفلسطين التي انحاز لها وفاضت فيه عطاء لا يخبو وجسارة لا تلين.. نصوصه صرخات شجر يلوّح بالنزال، وأوراقه نداءات وعي ذابح حالم بالتغيير ومؤانسة الفقراء والمحرومين الذين كتب لهم عنهم ذلك الغريب القريب من شعبه ووطنه" .

تضمن غلاف الآثار الشعرية مقطعاً من ديوانه الشهير بيان العار والرجوع: 

هلا بالذي ما قرأ مرةً ما كتبْ

ويتحفنا برديء الكلام إذا ما خطبْ

ولكنه يرأسُ الاتحادَ بأمر الأمير

وما اختاره ناخب

في الزمان، وفي عمره ما انتَخَبْ

هلا بالذي قبل أن بدأَ الحربَ منها انسحبْ 

هلا بالحروف المريضاتِ،

إن أكرَمَتها الجرائدُ صارتْ أدبْ

وإن خوّضت في السياسة، 

أرضت ضمير الأمير المرقّع بالسلّ ،

أرضتْ ضمير العربْ

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017