لم يجد ذاك الفتى الكفريني بداً من الوصول الى معشوقته الاولى جنة الارض حنانة الجد مسقط الجسد ومهوى الروح حنين الاباء والاجداد ، وفي اقل من خمسة اشهر يكرر البحث عن تلك الدرة السماوية الرابضة فوق جبال الكرمل الشامخة ، لم تثنيه المحاولة الاولى في الخريف الماضي والوصول الى اطراف بلدته الاصلية ان يعود مجددا ولكن هذه المرة برفقة الدليل فلجأ العاشق الى قريبه ابا ضياء من قرية معاوية في الداخل المتاخمة لبلدته من الجهة القبلية الشرقية ، ليدله على مهبط الروح وقبلة الهوى ارض ابيه وامه واجداده مربى طفولتهم ومسقط راسهم .
وللقاء الحبيبة اعد العاشق نفسه كعريس تجلى للقاء المعشوقة بعد ليلة طويلة من السهر لم يعرف فيها للنوم طريقا ولا للراحة طعما كيف لا والقادم عزيز والملتقى حميمي بامتياز ...
ستة واربعون عاما بل خنجرا على عمر الفتى الكفريني سمع بالجنة ولم يراها ..وما ان اطلقت تكبيرة الله اكبر من مسجد ابي بكر الصديق لتعلن عن انسدال نجمة الصبح عن سماء المخيم الذي عاش وترعرع في ازقته لاجئا مشردا يحمل بطاقة تموينه ومعاناة اهله ووصمة اللجوء بين بعض المجاروين في منطقته ومحيطه ..
كطائر الفنيق يخرج الفتى من بين الركام وغبار المأساة وتراكم الحنين ،،،إنطلق جعايصة يحمل معه اشواقه وحنينه وقبلات والدته التي انهكها المرض والتعب والشوق لمسقط الراس ومربى الطفولة والميلاد مصطحبا معه ابنائه وعائلته الصغيرة حاملا مفاتيح الدار وارث الراحلين وحكايات الاجداد بعد ستة وستون عاما على الابعاد القسري والتهجير .
في الطريق الى الكفرين الارض والهوية والتاريخ الذي لا يعادله وزن ولا يضاهيه ثمن كان لا بد من عبور المكان الاجباري والحاجز الاحتلالي على مفرق الجلمة فكان شلومو حاضرا بتصريح للعبور اضطرايا من بوابات الذل الاجباري والحاجز الصهيوني والتفتيش وسط صف طويل من البشر عمال واهالي اسرى وتجار وزائرين مثقلين بمشاعر الحنين والآسى التي تثيرها لحظات التفتيش والفحص للمارين .
هناك وعلى الطرف الاخرى التقيت بعمتي ام خالد وزوجها الكفريني جمال من قرية رمانة الحدودية في مهمة اخرى لزيارة نجلهما القابع خلف اسوار سجن مجدو الاحتلالي وهناك بين شوق اللقاء والحنين الى ارض الاباء واللهفة قالت لي ام خالد يا ريت يا عمتي اجي معكم عالكفرين فانسابت من عيناي دمعتان احدهما الما والاخرى اعتزازا وفخرا ، وتعبر البوابات الالكترونية والدائرية ومن ثم تنطلق الى الرئة المحتلة من قلب الوطن مرورا بسهل مرج بن عامر يتخطى اخضراره مساحة العين مع شاسع الشمس الممتدة الى حيفا وكرملهاوبحرها وامام ناظريك تتربع زرعين المدمرة ولافتة ضخمة كتب عليها بيسان (بيت شان) تتجه غربا وجنوبا في الطريق الى واد اللجون ومفترق مجدو تتوقف اجلالا وانحناء للقابعين الابطال خلف الأسوار والأشياك العالية والجدران المعتمة والرطبة هناك كان خالي ابو ضياء بالانتظار وانطلقنا خلفه في شوق يشوقنا الى الروح والجسد وعلى بعد ثلاثة كيلو مترا تنحدر يسارا الى مغتصبة مشمار هعيمك ومغتصبة عين هاشوفيت في طريق وافر الاشجار الباسقات تمتد المسافات والشوق يتطاير ودقات القلب تزداد خفقانا تردد لحن العودة واغنيات ابو عرب راجع عبلادي عالارض الخضرا تقترب من المكان ورائحة الارض تفوح بالذكريات والمعاني تنطلق وتشتم رائحة ابو شوشة والغبية التحتا والفوقا وخبيزة وصبارين والريحانية والبطيمات المحيطة بالكفرين وصولا الى معسكر الجعارة تخترق التلال والاشجار المتشابكة وتتعملق صعودا بين الطبيعة الخلابة تكتشف امكنة لم تراها حتى في الاحلام والخيال حقول ممتدة حولتها عصابات الاجرام الى مراعي للابقار تخترق التلال والطرقات الصعبة تملأها مجموعات كشفية من الصهاينة تخترق الارض باقدامها المزعومة تجسد حلم يوشع بارض الميعاد وتمحي بارجلها الخبيثة ذكريات ساكينها القدامى الكفرينيون ،، تراءت لنا الكفرين جنة الارض خلف التلال الخضراء مزهوة بالازهار وبسنابل القمح الممتدة مع خيوط الشمس الذهبية .
فرح طفولي انتابني وصرخة ملئت المكان فكان الصدى يردد نبرات صوتي نظرت حولي في رهبة المكان جمالية الكون توقفت امام الارض المخملية منتصبا على رؤوس اصابعي وسرت مسرعا الى الطريق امامي لست بحاجة الى الدليل فهذه ارضي وموطن أبائي واجدادي كاني احفظ حجارتها فمكان كل حجر بيت وذاكرة وقصة عشق انشودة فلاح وترنيمة عاشق وترتيل ناسك متعبد ... هنا كان يقف الرجال للصلاة والتسبيح في مسجد القرية الوحيد وهنا كان يسير الفلاحون والرعاة يشقون الارض بمعولهم وهنا كانت نساء الحي تملأ القراب وجرات الماء تسقي الرجال والمواشي .. هنا كان اجدادي اسماعيل وياسين وابناؤهم يفلحون ارض الحنانة بالفجل والبقدونس والخس والسفرجل هنا كان يقضي جدي العبد سهرته في عليته هنا البيادر عندما تزوج اجدادي الاربعة في عرس مشترك صيف عام 1942 جدي رجا العبد وشقيقه محمد شفيق وابناء عمهم سعيد واحمد الاسعد ... هنا ولد والدي رشاد واعمامي رشدي وراشد وعمتي رشدية هنا ولدت امي عائشة واخوالي احمد وعلي ومحمود وخالاتي زهرة ونهلة هنا التاريخ يا سادة هنا عبق الراحلين المرتحلين منذ رحليهم الاول عن جنة الله تبكي دمعا ودما وان تسير بقدماك على الثرى امجاد دمرت داستها اقدام الغزاة المحتلين وحولت ذكرياتهم وماضيهم الى اكوام من الحجارة المتناثرة في الارضين .
حزن وفرح مختلط كفرحة طفل بلقاء العيد بعد طول صيام كعاشق المطر بعد طول انحباس القيت نفسي اقبل ثراها الطهور واشمشم حبات التراب والحصى والى عين الماء اغترف من مائها واصب على راسي شوقا وعشقا فياتي صوت ابو ضياء هون عليك يا رجل وانا اردد هي جميلة حد الطهارة هي زمزم الروح والقداسة .
ينطلق ابني ورد ورايا في فرح طفولي ومشهد درامي يعبأون التراب والحجارة وبقايا ذكريات خالدة في الوجدان يملؤن اكياس صغيرة بعبق التاريخ وتراب الارض الخالدة .. ذكرى الاجداد سادة المكان جبلوا بعرقهم تربتها الزكية ورووا بدمائهم ثراها الطاهر .
وفي الطرف الاخرى تنطلق ام اشرف وام عماد وام صهيب تملأ القراب والاوعية بماء النبع ويقطفن من زعترها وشومرها وخبيزتها وحوريتها وميرميتها ونقطف حبات لوز من شجيراتها .. ينطلق عمي ابو اشرف صوب عين البلد ومعه ابناء اخوته واحفادهم يخطون اسمائهم على الجدران معلنين بعد ستة وستون عاما بان الكبار وان ماتوا فان الصغار يعودون ولا ينسون .. هذه الارض عربية حفظنا اسمائها من جبل بيت راس الى واد الدفلى والبزاري ووادي حمد ووادي فحرور وواد العرايس الى ارض المرشقة والبصة الى الى بئر خميس وعين الحنانة وعين الصفصافة وعين الراس وعين حمد وعين خلة بكر وعين ابو رجب والفخيته والشاعر والكوع وموسى والغدران وعين البلد الى البيادر الى عائلاتها الغول وسرحان والحج يوسف ومراد والنعجة وسريس وخليفة وناهية وشحادة وفياض وصبيحات وجعايصة وصالح وابو السباع وابو حبيب والقاروط ولبادة وزهران ومحاميد والنجمي وسمارة والعسوس ودغمان .
ساعات انقضت وتعود الحسرة والالم من جديد نقف على اعتاب الذكريات نردد اشعار سميح القاسم انا بلادي بذار الحب حنطتها ... وزيت زيتونها مصباحي .. وطري عشبها لغتي لو كابرت لغة .. ولو خبأ قمر ليمونها قمري .. وغازلتها شعوب الارض قاطبة لكنها اثرت عزفي على وتري ... عائدون مهما طال الزمن ... وارضنا وترابنا لليست للبيع ... لن ننسى ولن نسامح ولن نغفر من كان سببا في نكبتنا ... فتى الكفرين .. ليلة الثاني عشر من نيسان ليلة سقوط الكفرين قبل ستة وستون عاما .
