الحب ميلادنا... وهل يقف السجن بينك وبين من تحب ؟
بقلم الاسير طارق سلمان
التقيته في سجن ريمون المركزي قبل عدة سنوات، وربما عام 2007، وكان من أشد المعارضين لفكرة ارتباط الأسير بفتاة وهو داخل السجن، شاهدته في أحد المرات مغضباً في نفسه ثورةً تتوهج، وفي عروقه دمٌ يفور، وذلك لأن أحد الأسرى المحكومين بأحكام عالية قد ارتبط بإحدى الفتيات.
مرت الأيام والشهور والسنوات، والتقيت بذلك الأسير المحكوم 19 عاماً، في سجن النقب وبعد أيام قليلة خرجنا إلى الفورة، نبحث عن بعض الظل والهواء البارد بعد أن أحرقت الشمس كل من صادفته في طريقها في صحراء النقب، ولا أعلم هل أحد منكم يعلم مدى ارتفاع درجات الحرارة في معتقل النقب؟.
بعد دقائق تم استدعاؤه إلى الغرفة للاتصال بأحدهم عبر الأجهزة المهربة، وأجرى الاتصال وأخذ يتحدث بصوتٍ منخفض أحياناً ومرتفع أحياناً أخرى، ورحت أراقب المشهد وهو يطلق بعضاً من ضحكاته المرتفعة، بدا قوياً صلباً يقطر بالحيوية، يتحدث عن الحب، يسأل عن الجامعة، ينطق بعض الكلمات باللغة الانجليزية، ويسأل كل شيء يفعله اشتياق المحبوب بمحبوبته، ويروي لمن هو على الجانب الآخر، بعضاً من تفاصيل حياته في الأسر، وبعد 15 دقيقة انتهى وقته المسموح للاتصال، سألته كنوعٍ من المزاح" من يراك تتحدث بهذه الطريقة يظن أنك تتحدث مع خطيبتك"، فتبسم ضاحكاً وقال: عندما يخترق سهم الحب قلبك فإنه يصيبك بمقتل.
في ساعة المساء أعد نايف بطل قصتنا، كاسين من الشاي، وأجلسني بالقرب من نافذة الغرفة، وبدأ يروي لي قصة ارتباطه بخطيبته، حيث شاهدها أول مرة على إحدى الفضائيات المسموحة في السجن، وقد كان الاحتلال قد اعتقلها بتهمة محاولة طعن أحد الجنود، وحكم عليها بالسجن مدة أربع سنوات، وأفرج عنها في صفقة مع المقاومة، في صفقة وفاء الأحرار، وأصبحت ناشطة في مجال الأسرى .
لم أكن أستطيع أن أخفي إعجابي بها وبأدائها، وفي أحد المرات جاءت هذه الفتاة برفقة بعض الناشطات في مجال الأسرى لزيارة أهلي، وبالصدفة، وقد كانت صدفةً خيراً من ألف ميعاد، اتصلت على والدتي، وأخبرتني بوجودها وصديقاتها، وطلبت الفتاة الحديث معي، فتحدثت معها وكانت كلماتها المعدودة، كلمات لشحذ الهمم والصبر على السجن والسجان، وفي آخر الحديث طلبت مني أن أزودها بأخبار الأسرى، حتى تستطيع نشرها وفضح جرائم الاحتلال بحق الأسرى، فوافقت دون تفكير.
السجن شكلٌ آخر من أشكال الموت، لكن الأسير يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، وكيف للأسير أن يموت وهو محفور في ذاكرة ليست للنسيان وهي ذاكرة فلسطين، مع الاعتذار للشاعر الفلسطيني محمود درويش.
أشاح بناظره إلى نافذة الغرفة، فوجد القمر يتكبد وسط السماء، بكامل بهائه من عليائه فأردف قائلاً" لا يمكن لي أن أعيش بعيداً عن القمر، أحدق فيه لساعات كأني أحدق في وجه حبيبتي ثم أحضر عشرات من رسائلها وأقبلها، وقال إني أجد ريحها في كل مكان وفي الليل وقبل أن أخلد للنوم، أضع رأسي على منديلها الذي قمت بتهريبه، وأطيل الحديث مع نفسي وكأني أتحدث إليها، ولا أدري لماذا أشعر كلما كلمتها بالأمان وسط هذا الخوف الغامض، وكلما ابتعدت شعرت بوحدتي القاسية".
عاد إلى قصته وقال" بدأت بمراسلتها وإعطائها أخبارنا وأصبحت صفياً من حيث لا أدري، المهم أن أحضر الأخبار، نقلت لها أخبار الافراجات وتجديد الأوامر الإدارية ونشاطات الأسرى، أخبار تتعلق بالأسرى المرضى، بوفاة ذوي أسير، إلى أن جاء أحد الأيام ونقلت لها خبر خطبة أسير وإحدى الفتيات، وبعد الانتهاء من هذا الخبر سألتني عن رأيي بهذه القضية، أصبت بانفصامٍ في الشخصية، وبدأ لساني يتكلم بما لا يجول به خاطري، ويتناقض مع رأيي المعارض بشدة لارتباط الأسير بأي فتاة، أجابها لساني: إذا وجد الأسير من تقبل به وتتحمل أعباء اعتقاله، فلا مانع لدي، وأعدت الكرة إلى ملعبها، وجاء دوري لإعادة السؤال إليها فقالت: أتمنى أن أرتبط بأسير وأشاركه نضاله، واعتقاله، لكن قبل كل ذلك يجب أن أتأكد أنه يقدرني ويقدر تضحيتي معه، ولا أن ينساني بعد بزوغ فجر حريته، كما فعل آخرون".
قبل عامين كنت ملقىً على قارعة النسيان، ومرمياً في قعر الإهمال، ولكن بعد الارتباط بها أمدتني بالأمن والدفء والحنان والحب، والأهم أني أصبحت معها أسيراً للجسد لا أسير العقل والروح والمشاعر، أصبحت لحظات العمر لا تقدر بالسنين ولكن بالعواطف، فالحبيب قد يتحول إلى كلمة أو قبلة، أو معنى من المعاني إذا أراد محبه أن ينقله إلى أي مكان وهو باقٍ في مكانه.
أخط هذه الكلمات بعد سماعي لبرنامج على أحد الإذاعات وكان موضوع الحلقة عن خطبة الأسرى من داخل السجون، وكان هناك مداخلة من أحد الضيوف، قال فيها: لا يدرك الأسير الذي ارتبط بخطيبته داخل السجن معنى الحب الحقيقي، لأنه هوٍ لم يعش التجربة في الخارج، وأقول له، نعم يوجد في كلماتك شيءٌ من الحقيقة وشيءٌ من الخطأ.
الجزء الحقيقي هو أن الأسير لم يعش تجربة الارتباط بفتاة وهو خارج السجن، والجزء الخطأ هو أن الأسير يدرك جيداً معنى الحب، فهو الذي ضحى بعمره من أجل محبوبته ومعشوقته الأولى فلسطين، نعم، تهدم الأقدار بعضاً من الأسرى حين يهوي كل ما فيه من العزم والقوة، وفجأة(هي) تبنيه وتشدد منه، وترمم بعضاً من نواحيه المتداعية، وتقيمه بسحرها بناءً جديداً، هذا هو معنى الحب الحقيقي.