رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية
كلنا بورما؛ أو لنقل كلنا روهينجا! هذا هو لسان حال وسائل الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضة. وذهب بعضنا مثل حركة حماس وعلى لسان محمود الزهار إلى إعلان استعدادها للقتال هناك، ودعم أخوة الإسلام بالمال والسلاح "للحفاظ على دينهم الحنيف". الزهار يدعو مسلمي الروهينجا أيضا للجوء إلى غزة. إن نسبة الفقر في قطاع غزة قد بلغت 80% حسب جمال الخضري رئيس اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار،بينما بلغ معدل البطالة بين الشباب 60%. الزهار ليس رجل سياسة ساذج وهو يعلم -اغلب الظن- بأن حركته لن تقاتل في ماينمار، وقطاع غزة لن يتمكن من استضافة الروهينجا؛ هذا ضرب من الخيال بأحسن الأحوال. لقد تحولت حكاية الصراع في بورما إلى مادة تغذي الشعبوية والتحشيد الديني الأعمى، ومناسبة للهروب من الهموم المباشرة إلى صراعات لا نعلم عنها إلا القليل. يذكرنا ذلك بعهد مضى استنفر فيه عرب الخليج كل طاقاتهم المالية والإعلامية وما في جعبتهم من ذخيرة التحشيد الديني من أجل "نصرة المجاهدين" في أفغانستان بوجه "الغزو الشيوعي". وقد اكتشفنا بعد أكثر من عقدين من الزمن بأننا كنا نقاتل بعضنا لصالح واشنطن!
ما الذي يجري فعلا في بورما؟
تعاني بورما؛ البلد الصغير الواقع جنوب غربي الصين من صراع ممتد منذ ثمانيات العقد الماضي. هذا الصراع الذي يجد جذوره في التركيبة الإثنية-القومية والدينية المعقدة(هندوس، بورميين، مسلمين، ماليزيين وتايلنديين) ذهب ضحيته الالاف من البورميين. لقد استخدمت التنظيمات المسلحة في صراعاتها كل أشكال القتل، الحرق، الترحيل، الاغتصاب، والسحل. إلا أن الجيش البورمي هو الجهة الأكثر استخداما للقتل على نطاق واسع لدرجة التطهير العرقي بحق الإثنيات غير البورمية، إذ يشكل البورميون أغلبية السكان وتعاني الأقليات الإثنية القومية والدينية التمييز الممنهج، الأمر الذي دفعها لتشكيل تنظيمات مسلحة في مواجهة الحكومة المركزية.يعتبر الصراع بين الحكومة وبين الجماعة الإثنية "كارين" (ذراعها المسلح يعرف باسم الاتحاد الوطني لكارين) التي تنتمي إلى أصول تايلندية وتعيش في الإقليم المتاخم لتايلاند، هو الصراع الأعنف والأطول والذي تسبب بماسي إنسانية كبرى ليس أقلها تهجير مئات الالاف من هذه الإثنية إلى تايلاند. ثمة صراع دموي اخر يستعر في ولاية "شان" في الشمال الشرقي بين جيشين من الميليشيا المسلحة (جيش تحرير تانغ، وجيش ولاية شان) على خلفية إثنية-قومية ودينية حيث تعيش أكثرية مسيحية، وبالتزامن يشن الجيش البورمي حربا شرسة ضد الجيشين.
لقد تمكنت القوى المتحاربة في هذا البلد من التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وإجراء انتخابات عامة في العام 2010، إلا أن هذا الاتفاق قد انهار وتفاقم معه الصدام المسلح الذي قاد في أحد أكثر نتائجه مأساوية إلى تهجير أكثر من 11000 شخص في العام 2011 لوحده. ويرى الكثير من المراقبين للحالة في بورما بأن سبب انهيار تجربة الانتخابات والحياة البرلمانية هو استغلالها من قبل الحكام الفعليين للبلد (العسكريين) لتكريس سياسات الهوية القومية عوضا عن بناء أسس المواطنة، الأمر الذي قاد إلى تجدد العنف المسلح بخاصة في أقاليم الشمال والجنوب الشرقي.
إن التنوع الإثني المعقد والذي يضم أقليات من الدول المحيطة ببورما إلى جانب عقود من الحكم العسكري والاضطهاد، إلى جانب الأداء الاقتصادي المتردي في هذا البلد قد شكلت توليفة قاتلة للصراعات الإثنية. تنتمي طائفة الروهينغا (أو الروهينغيا) لأصول بنغالية (بنغلاديش)، وتعيش في ولاية "راخين" المتخمة لبلدها الأصلي ويبلغ عدد أتباعها نحو 1.1 مليون نسمة، حيث تسكن أغلبية من البوذيين البورميين. وخلال عقود طويلة (بعض المؤرخين يورد بأنهم عاشوا في بورما منذ أكثر من 500 عام)من سكناها لهذا الإقليم اعتبر أتباعها مهاجرين غير قانونيين وعانوا كل أنواع التمييز والاضطهاد، ويعتبرون شعب بلا دولة Stateless. وفي الجولة الحالية من عمليات الجيش البورمي والميلشيات البوذية تم قتل المئات من الروهينغا وتهجير أكثر من 123,000 إلى بنغلاديش حسب مصادر في الأمم المتحدة، التي تحدثت عن هجمات مسلحة ضد قوات الجيش والميليشيا البوذية من قبل حركة الروهينغا المسلحة والتي تسمى "جيش الخلاص الروهينغي" (أغلب الظن لن يلزمهم قوات حركة حماس). وبحسب ذات المصدر فإن الحكومة البورمية تسعى للتخلص من الروهينغا وتهجيرهم إلى بنغلاديش، ففي السنوات الأخيرة تم تهجير أكثر من 87,000 منهم فعليا على يد القوات الحكومية، بينما قتل في عمليات التطهير والملاحقة منذ الشهر الماضي بين 400-1000 من الروهينغا حسب مصادر عديدة ومتنوعة بما فيها منظمات الإغاثة الإنسانية (أي أن علينا التريث قبل تصديق الروايات عن قتل الالاف). وحسب الأمم المتحدة فإن هذه الأرقام مرشحة للازدياد بفعل منع الجيش البورمي للأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية من إيصال الدواء والغذاء للنازحين والهاربين من جحيم التطهير العرقي.
خلاصة القول هي أن الصراع في بورما هو صراع إثني-قومي مارست ولا تزال الحكومة المركزية فيه مختلف أشكال التمييز العنصري والملاحقة والتطهير بحق مجموعات إثنية-قومية ودينية متنوعة في عقيدتها بينمسيحيين ومسلمين وسواهم. إن المكون الديني هو واحد من مركبات الحالة البورمية؛ وربما يكون الأقل أهمية من غيره من العوامل في بلد فقير جدا وتركيبة إثنية غاية في التشابك. وقد تفاقمت عمليات القتل والصراعات المسلحة بفعل غياب المعالجة المؤسسية الديمقراطية لهذا التنوع الإثني. فمقارنة بدول مجاورة ممثل ماليزيا التي تعيش فيها أربع إثنيات رئيسية تم استدخال واستيعاب التنوع عبر حلول ديمقراطية ممأسسة وبناء اقتصادي متين.
إن التمييز العنصري والجرائم التي تم ارتكابها بحق 5 مجموعات إثنية والذي يرقى إلى درجة الاشتباه بالإبادة الجماعية في بعض الحالات، والأبارتهايد في حالات أخرى هو جوهر المسألة. وقد أدى تجاهل المجتمع الدولي لممارسات الحكومة البورمية على مدار العقود القليلة الماضية إلى تماديها في سياستها الإجرامية، حيث راهن المجتمع الدولي على العملية الديمقراطية للعام 2010 وعلى قدرة "أونغ سا سيو" على قيادة عملية ديمقراطية. إلا أن المذكورة خضعت لتقديرات الجيش، وفي حالة الروهينغا دعمت الرواية التي تقول بأنهم مهاجرين غير شرعيين. استنادا إلى معطيات الصراعات المريرة في بورما فإن ملاحقة الروهينغا لم تتم لكونهم مسلمين، بل لكونهم من وجهة نظر الحكومة والأكثرية البوذية غرباء مختلفون لا حق لهم بالعيش في هذا البلد، شأنهم شأن الأقلية التايلندية في الجنوب الشرقي، والمسيحية في الشمال الشرقي. بهذا المعنى فإن تقديم الماساة الإنسانية في هذا البلد على أنها عملية ملاحقة حصرية للمسلمين الروهينغا في سياق مؤامرة عالمية على المسلمين في كل مكان ينطوي على خطر إذكاء التطرف الديني وأعمال الانتقام الأعمى، وبأحسن الأحوال هو استغلال سياسي رخيص وشعبوي لقضية إنسانية وحقوقية من الدرجة الأولى لا يعلم تفاصيلها غالبية الناس الأمر الذي يدفعم إلى حالة من الهيجان والتعبئة الدينية الجاهلة.