في التفاعلات المتواصلة لقضية الاغذية والمنتجات الفاسدة أثارت قضية كشف مواد فاسدة في محل لبيع العصائر في إحدى مدن الضفة الغربية جدلاً واسعاً في الرأي العام المحلي، سواء عبر وسائل الاعلام المختلفة أو على صفحات التواصل الاجتماعي. ومرة أخرى، وربما العاشرة أو المائة أو الألف، لا أعرف بالضبط عدد مرات تكرار مثل هذه القضية والجدل حولها. لكن ما أعرفه أن "سيناريو" الجدل يتكرر في كل مرة مع تغييرات طفيفة تشمل الأماكن، الأشخاص، نوعية المواد التي تم اكتشافها وآلية التعامل مع الحدث، رسمياً وشعبياً.
على المستوى الشعبي يتدحرج التفاعل معبراً عن "الصدمة" والذهول الذي يصاب به المواطنين نتيجة اكتشافهم أنهم كانوا يأكلون أو يشربون أو يستهلكون إجمالاً مواد ومنتجات لم تكن من حيث الأساس، أو على الأقل جرى نقلها و/أو تخزينها في ظروف وشروط أدت الى تراجع أو انعدام صلاحيتها للاستهلاك البشري. وفي كل مرة كانت الصدمة تعبر عن نفسها في المطالبة الملحّة من الجهات والهيئات الرسمية بالكشف عن الأسماء والتفاصيل المرتبطة بالمواد والمحال والأشخاص ذوي العلاقة بذلك. ومن ثم المطالبة بفرض العقوبات الرادعة بحقهم. وتنشغل وسائل الاعلام والرأي العام في تكريس وقت طويل لإجراء مقابلات وانجاز تقارير وأخبار لها علاقة بالأمر، وتنشغل كذلك بعض المؤسسات والأحزاب والقوى السياسية في إصدار التصريحات والبيانات وغيرها من ردود الفعل والمواقف.
على المستوى الرسمي تنشغل المؤسسات الرسمية المختلفة بدورها في إصدار التقارير ونشر البيانات والإحصائيات والمعلومات التي تشير الى تفاصيل كثيرة مرتبطة بالحدث نفسه خاصة، أو بطرق وأساليب عملها في الرقابة والتفتيش وملاحقة ظاهرة الغش والخداع والإتجار بالمواد الفاسدة، وملاحقة ومحاسبة التجار ومروجي هذه المواد الخطرة على صحة الانسان والمجتمع عموماً على المدى القريب والبعيد. وفي بعض الأحيان يجري الكشف عن التفاصيل للعموم وكذلك اتخاذ اجراءات مباشرة بحق الأشخاص أو المحال والشركات كإغلاقها ومصادرة وإتلاف المواد وغيرها من الاجراءات.
ينتهي "السيناريو" بهذا الشكل تقريباً، تعود المحال نفسها للعمل خلال أيام، ويطلق سراح من تم توقيفة بانتظار مسار قانوني طويل للقضية، ينتهي في غالبا بعرامة مالية. ويعود المواطنين الى شراء واستهلاك المواد المختلفة من الطعام والشراب وغيرها. وتبرد الى حد التلاشي شدة التصريحات والمواقف للمؤسسات والقوى المختلفة، وتتبخر الدعوات والمطالبات وتتحول الى شعارات يحتفظ الغالبية بنسخ منها لإعادة نشرها في الحلقة القادمة من نفس المسلسل، وكفى الله الجميع شر القتال.
في ثقافتنا المجتمعية تقول المقولة الشعبية أن "النسيان نعمة"، وهذه المقولة تفسر وتبرر كيفية استمرار الانسان في العيش وقدرته على التكيف مع الاهوال والمصائب والكوارث التي يمر بها المجتمع بصورة جماعية أو فردية. لكن هناك سؤال لا يزال يطرق في رأسي في كل مرة وهو: هل تحولت "نعمة النسيان" هي الأخرى الى شعار عام للقوى والمؤسسات والاحزاب المختلفة، أو وصفة سحرية تصلح للاستخدام في كل الحوادث والحالات المشابهة؟! واذا كان الأمر كذلك، فهل هذا هو حال المؤسسات الرسمية أيضاً؟
حديث الليل يمحوه النهار، وتتحول الشعارات الى حبر على ورق، أما القيم والمبادئ واخلاقيات العمل لدى الاحزاب والمؤسسات المختلفة فإنها تفقد بريقها، بل مفعولها، وتصلح للاستخدام فقط وفق المقولة الشعبية "تتباهى البنت بشعر بنت خالتها". والشعارات التي تزخر بها الكتب والنشرات والأنظمة الداخلية عن مفاهيم من مثل: "طليعة "، "قيادة"، التعبير عن مصالح"، وتنظيم الجماهير فإنها لا تجد انعكاسا لها على ارض الواقع. وتستمر المؤسسات والاحزاب في التغزل بتاريخها وتراثها النضالي، وتتحول الأطر والمؤسسات والانظمة والاجراءات الرسمية الى مجرد ايقونات نحتفظ بها على رفوف المكتبات، ونستخدمها في الابحاث والدراسات ولأغراض انجاز التقارير.
قبل عدة ايام نشر احد مراكز الاستطلاع وقياس الرأي العام نتائج استطلاع تشير ابرز نتائجه الى ان ما يقارب من 50% من المواطنين لا يثقون بأي حزب من الاحزاب. لا اهدف هنا الى مهاجمة الاحزاب والمؤسسات، وربما هناك تفاوت بين حزب وآخر، او مؤسسة واخرى، لكن هذه النتيجة عموماً اكثر من خطيرة، وربما يجدر ان تكون بمثابة جرس انذار لنظرة متأنية فاحصة وموضوعية من قبل كل الاحزاب والمؤسسات للتنبه قبل فوات الأوان. لكن ما اتمناه فقط ان تبتعد هذه النظرة عن تلك الفكرة التي يرددها أحيانا بعض قادة الاحزاب والمؤسسات والتي ملخصها ان المشكلة تكمن في ابتعاد الجماهير عن الاحزاب والمؤسسات.
خلاصة القول ان الجماهير عموماً بسيطة وعفوية وغير قادرة على تنظيم وتأطير نفسها وتحركها، وهذا هو بالضبط منبع ضرورة واهمية وجود الاحزاب والمؤسسات المجتمعية، لتوعية وتنظيم وتأطير الجماهير وقيادة نضالها وتحركها والقدرة على التعبير عن مصالحها. اما اذا فقدت هذه المفاهيم معانيها الحقيقية وقدرتها على الفعل على ارض الواقع من اجل تغييره فإنها تُفقد اصحابها والمنادين بها شرعية وجودهم من حيث الاساس، وتتحول من موجه ومرشد للسلوك الفردي والجماعي لبناء مجتمع افضل الى مجرد تكرار يقود الى احباط تلو الاحباط، و"مادة" منتهية الصلاحية، وربما سامة وأكثر خطرا على صحتنا الجماعية كمجتمع من المنتجات المنتهية الصلاحية والفاسدة.
نبيل دويكات
رام الله-12 أيلول 2017