الرئيسية / الأخبار / أسرى الحرية
في الطريق الى مجدو حكايات كثيرة..
تاريخ النشر: الخميس 15/05/2014 10:59
في الطريق الى مجدو حكايات كثيرة..
في الطريق الى مجدو حكايات كثيرة..

 كتبت : ميس حسون

 

في يوم غير عادي وبعد مرور اشهر عدة على اعتقال زوجي ,جاءني الخبر من الصليب الاحمر بصدور تصريح خاص بي لزيارة زوجي الاسير في سجن مجدو المركزي في الداخل المحتل, حينها لم أجد لمشاعري اي ترجمة, هو الفرح ام الحزن ام الشوق ام الغرابة! , لم اكن اعلم ما هو الصليب الاحمر وماهي الزيارة ,وكيف ستكون طريقنا الى المجهول لدي في ذلك الوقت .

لم انم تلك الليلة ولم تغمض لي عين, كطفل يأخذه الفرح بعيدا, استعدادا لرحلته المدرسية,لم أنم وانا أرسم واتخيل ملامح الطريق الى سجن مجدو, كيف ستبدو وفي أي بقعة جغرافية يقع , بدا كل شيء لي في البداية صورة ضبابية لم أرى من خلالها الا وجه زوجي المعتقل لانه الشيء الوحيد الذي اعلم حتى لحظة الزيارة.

دقت الساعة الرابعة فجرا على صوت اذان مرتفع لافزع حينها خائفة من ان الوقت قد داهمني ,قمت مسرعة لأجهز نفسي وطفلي , في هذه اللحظة تضاربت مشاعري لم أعلم ما يدور في مخيلتي او قلبي , كل ما أعرفه أنني تجهزت وكانت نظرتي الاخيرة الى المرآة لأسال نفسي هل أبدو جميلة أم لا؟؟

خلال كل هذا استغربت ما تقوم به أم زوجي في تحضير بعض من المأكولات لكي نأخذها معنا خلال مشوار زيارتنا ولكنني لم أعر الامر انتباها ولم أسالها حتى لم كل هذا, أكملت تحضير نفسي للانطلاق , والى هذه اللحظة ايضا بدا كل شيء ضبابيا وغير واضح.

وأخيرا خرجت أجسادنا من عتبة المنزل لتصبح جثثا باردة داخل سيارة التكسي ,  حلقت بعيدا مسافة الطريق الى مكان أجهل معالمه ,كل ما أعرفه وأذكره هو نبضات قلبي المتسارعة في تلك اللحظة .

وأخيرا وصلنا الى موقف حافلات الصليب الأحمر, نزلنا من السيارة لأتفاجأ بالعشرات من الناس الذين ينتظرون الدخول الى الحافلات والتي كان عددها في ذلك الوقت ثلاث حافلات , علمت حينها ان هؤلاء جميعا هم ذوو اسرى من كافة مناطق محافظة طولكرم, أشكال ووجوه  وأعمار مختلفة لم تتشابه الا بشوق ولهفة كانت ظاهرة بشدة على وجوههم.

التفت حينما بدأ مسؤول في الصليب الاحمر ينادي على العائلات باسماء ابنائهم الاسرى, ليذكر حينها اسم زوجي "بكر عتيلي" جفلت خوفا , وركضت مسرعة علني أجد بالحافلة ما يمدني بالأمل ,علني أرى وجه زوجي , دخلت مسرعة محلقة هنا وهناك بين جدران الحافلة لأجد وجوها ما زال النعاس يسرق بشاشتها ويطفىء بريق الشوق في اعينها, ولم تزل الصورة ضبابية للحظتها.

امتلأت الحافلات واكتمل العدد وانطلقنا في تمام الساعة السادسة صباحا من موقف الحافلات في مدينة طولكرم.

سرت بعيني مع أرصفة الطرقات وأشجار الزينة على أطرافها, في صباح ما زال يطل علينا شيئا فشيئا فالشمس لا زالت متعبة نائمة, سرت علني أستطيع ان أرسم الان خطوطا أولية علها تزيل ضبابية الصورة .

 لم تكن المسافة بعيدة بين موقف الباصات وما يسمى بمعبر الطيبة , والذي علمته أن علينا الانتظار حتى الساعة السابعة لكي يسمح لنا بالدخول الى المعبر .

وقفت الحافلات ونزل الناس الى استراحة بسيطة لتناول الشاي والقهوة علهم يحاربون بها النعاس الجاثم على وجوههم, علهم يستنشقون هواء باردا ينعش قلوبهم ويعيد مجرى الدم في عروقهم.

نزلت من الحافلة لأكتشف ماذا يوجد بين عرض هذه الارض وسمائها, نظرت بعيني محلقة صوب المعبر فلم أرّ سوى جدران اسمنتية وأسلاك حديدية منظر مزعج, لم أدرك بعد ما الذي ينتظرنا بالداخل , تجولت قليلا خارج الحافلة حتى يحين موعد الانطلاق ,متمعنة بوجوه مختلفة لنساء طاعنات بالسن وشابات جميلات حضرن أنفسهن لملاقاة اما الزوج او الخطيب او الأخ او الأب ,  وأطفال صغار يلعبون هنا وهناك علهم ينتصرون بذلك على التعب والشعور بالنعاس  .

توقف نظري فجأة ليقع على شابة يائسة فاجعها الوقت, ليأكل ملامح أنوثتها شيئا فشيئا, وهي بالمقابل لا تملك سوى الانتظار لرجل لا يجمعها به سوى خاتم ذهبي يحسر اصبعها المسن, وشوق يقضي عليها, ولقاء في عتمة السجن لا في ظل وردة تجمعهما ولا ياسمينة تحفظ اسرارهما.

وهناك على مقعد صغير في الاستراحة كانت تجلس حاجة مسنة يزين صدرها قلادة ذهبية تحمل صورة ابنها الاسير منذ خمسة عشر سنة, تسير على نفس الطريق حافظة ملامح السماء والارض تسافر مع الزمن وفي تقلبات الفصول لينهش الوقت من عمرها والحزن يجثم فوق تجاعيد وجهها الشاهدة على معاناتها .

أنعمت النظر بلا وعي, بلا ادراك , ولا تفكير وسرحت بعيدا لا أدري الى أين, لأصحو حينها من غفلتي على صوت الشاب المسؤول يقول" يلا يا جماعة على الباصات بدنا انفوت على المعبر".

كدت أفقد وعيي من شدة التوتر بانتظار الدخول الى ما يسمى معبر الطيبة, دخلت الى الحافلة ملتقطة أنفاسي وكلي أمل أنني اقتربت من المكان.

سارت بنا الحافلة مسافة قريبة جدا لا تتعدى أمتار معدودة لنتوقف بعدها, وسرعان ما بدأ الناس بالنزول مسرعين من الحافلة وكأنه سباق الى كنز ثمين ؟!

لم أدرك ماذا يفعلون ولم كل هذا التزاحم سوى أنني بدأت كالمجنونة مثلهم مسرعة, ولكن بعضا من الحياء والذهول منعني من أن أسابق نساء مسنات , التقطت انفاسي مرة أخرى وهدأت من روعي وسرت بلا وعي متلهفة أعتقدت أنني اقتربت .

أثناء سيرنا للدخول الى المعبر لاحظت انتشارا كبيرا لبسطات الباعة على أطراف الطريق, من خضار وفواكه ومكسرات ومشاوي وحلويات, خلت لوهلة وكأنني في خان التجار, كل ينادي بأعلى صوته عله يسبق الاخرين في جذب الزبائن ليسترزق قوت يومه, ولكن بلا جدوى!! الناس في تزاحم مستمر من يصل أولا الى بوابة المعبر يسابقون أرواحهم في سبيل الوصول لفلذات اكبادهم.

وأخيرا وصلنا الى بوابة حديدية والتي تسمى  ب"المعاطة" لندخل بعدها في متاهة من الأسلاك الشائكة وكأننا داخل لعبة في جهاز حاسوب , حتى وصلنا بعد ذلك الى بوابات حديدية أخرى تتلو بعضها البعض لنصل وقتها الى داخل المعبر, بدا  كل شيء حديدياً, أينما نظرت وتجولت بعينيك لن ترى الا الحديد, بوابات وحواجز, مكان مظلم بارد لا تهواه اي نفس بشرية, يحتوي على مراوح كبيرة ذات صوت مزعج ,علها تخفف من حدة  الضغط المتولد من كثرة الحشود .

ما هون الأمر قليلا كان صوت زقزقة العصافير ومنظر الاعشاش الموزعة هنا وهناك , العصافير هي فقط من كانت تشعرك بالحياة, وبأن العبرة ليست بالمكان بل بمن يستطيع ان يحوله الى مأوى صالح للعيش والتنفس.

بدأ الناس بالركض والفوضى أصبحت الشيء الوحيد الذي يعم المكان وأصوات مجندات يصرخن عبر مكبرات الصوت, كانت أصواتا بلا صورة حتى اللحظة, أصوات تغافل الجدران الاسمنتية والبوابات الحديدية لتسيرك من حيث لا تعلم.

أعتقدت أن ألامر بغاية السهولة, وأننا  سندخل مسرعين الى محطة أخرى كنت أجهلها , ولكن ألامر لم يكن أبدا كما توقعت , مر الوقت ونحن ما زلنا واقفين بانتظار الدخول وسط صراخ لا تتحمله اذن بشرية صوت مزعج جدا لا زال صداه يرافقني حتى اللحظة.

لم نكن وحدنا هناك؟!  كنت أعتقد ذلك في بداية الأمر ,الا أن حشود العمال المتوجهين الى العمل داخل الاراضي المحتلة, لفت نظري ودهشت لمنظرهم البالي, تحيط بأجسادهم ملامح المشقة وألم يعلو وجوههم لايشبه أبدا أي ألم اخر كان همهم الوحيد التسابق دون مرعاة لوجود النساء والاطفال , لا اعلم ان كان معهم حق بذلك ولكن أوضاعهم كانت أكثر قسوة من أوضاع أهالي الاسرى .

 دقت الساعة الحادية عشر صباحا وما زلنا واقفين على أرجلنا متحملين مرارة الانتظار, لنهرع حينها على صوت مجندة اسرائيلية تقول لنا " يلا فوتو فوتو"  ركضت مسرعة لأتجاوز تلك البوابة الحديدية المهترأة  علني اقهر ثباتها وانتصر على تجاوزها, لأتفاجأ بأن هناك بوابات أخرى  في انتظارنا, تعرضنا لتفتيش قاسي قبل الانتقال اليها لنتجاوزها بعد ذلك, بوابة وراء بوابة, لنصل بعد ذلك الى قاعة انتظار كانت مقسمة الى اربع مخارج, ولكن لم يفتح منها الا مخرج واحد  فقط لا يمكن له أن يستوعب كل هذه ألاعداد الموجودة لنجبر مرة أخرى على الانتظار ساعات من الزمن, وكل ذلك كان فقط في سبيل اذلالنا واهانتنا .

أتعبنا الانتظار وارهق الشوق أرواحنا المتلهفة, حتى جاء دورنا في تجاوز البوابة بعد التدقيق بالهويات وألاوراق اللازمة للدخول , تنفست الصعداء وأخيرا الا أنني تفاجأت مرة أخرى بوجود بوابة حديدية أمامنا, اصبت بحالة من الاحباط والتعب الشديدين ولكنه تلاشى شيئا فشيئا حينما تجاوزناها لنصبح أخيرا  خارج بوابات المعبر نسير على طريق اسفلتية محاطة بأشجار الزينة وسماء زرقاء اللون صافية تطل علينا, فرحت قليلا وتساءلت الى اين سنتوجه الان؟  قالت لي ام زوجي" هسا بدنا انروح على الباصات الاسرائيلية عشان نوصل السجن ".

فرحت لسماع هذا الأمر ومشينا مسرعين حتى وصلنا الى موقف الباصات الاسرائيلية المتعاونة مع الصليب الأحمر في نقل أهالي ألاسرى الى السجون , كان هناك حافلات خاصة لسجن مجدو وأخرى لسجن جلبوع  وأخرى لهشارون , لم أعر الأمر اهتماما سوى أنني أريد فقط الدخول الى حافلة سجن مجدو.

صعدنا أخيرا الى الحافلة وانتظرنا قليلا حتى اكتمل العدد لتنظلق بنا الى سجن مجدو , ذلك السجن الذي ما زلت أحاول أن أرسم ملامحه بمخيلتي لغاية هذه اللحظة , خفت قليلا من الاقتراب علني أهون وقع الأمر على نفسي وأرسم بيتا جميلا محاطا بياسمينة وأزهارا من النرجس لا بأشواك سامة ولا جدرانا اسمنتية مظلمة, بدأنا بالابتعاد شيئا فشيئا عن معبر الطيبة , ورمينا خلف ظهورنا مشقة الوصول وألم الذل والهوان وقساوة ما تعرضنا له.

هدأت نفسي قليلا وداعبت وجهي نسمات عليلة من الهواء التي باغتت نافذة الحافلة لتلطف الجوعلينا وتطفأ حرارة أجسادنا المرهقة.

سرنا ساعة ونصف قبل الوصول الى سجن مجدو المركزي, وخلال مسيرتنا ولأول مرة في حياتي شاهدت ما يسمى بالداخل الفلسطيني أي الاراضي الفلسطينية المحتلة ,او ما يسمى بأراضي ال 48, على كل حال انه الجزء الاخر من فلسطين الجزء الذي نجهل , طبيعة ساحرة ومناظر خلابة شاهدتها عيناي ولاول مرة. للحظات نسيت أنني ذاهبة الى السجن نسيت شوقي ولهفتي لرؤية زوجي , باغتني الحزن وأدمى قلبي وأبكى مدمعي , لم أتحمل ان أرى فلسطين المغيبة, انها الجزء المغتصب منها ولكن بمسميات اسرائيلية جاثمة فوق اراضيها بعنجهية.

وبلا أي وعي بدأت أجهش بالبكاء كالمجنونة لم أحتمل وقع المشهد في نفسي , ليلتفت الي  كل من في الحافلة , و ظنوا  حينها أنني أبكي شوقا لرؤية زوجي, لم يعلموا أنني بكيت ألما وبكل حرقة, بكيت وقد ارتجف قلبي داخل ضلوعي, لم أكن أعلم أنني سأرى وسط كل هذه الصورة الضبابية التي لم تكن واضحة بعد بمخيلتي مثل جمال وروعة اراضينا المسلوبة.

لم تجف دمعتي ولم اهدأ حتى توقفت الحافلة بنا,  لم أعلم حينها أننا وصلنا الى السجن,  كل ما شاهدته هو حشود الناس مسرعين للنزول من الحافلة , في تلك اللحظة تمالكت نفسي وقمت مسرعة للخروج, علني اطفىء نار الالم في قلبي.

دخلنا من البوابة الرئيسية للسجن, لنتوقف في ساحة للانتظار قبل الدخول الى قاعة الزيارة,  الكل جلس وأخذ بالاستعداد للقاء الاحبة, لم يختلف الامر هنا عن ما تعرضنا له اثناء مسيرتنا منذ الصباح الباكر, انتظار, والم وذل, واهانات للجميع, ولكن رغم كل ذلك لم يفقد احد منا ابتسامته التي كانت تعلو وجوهنا المتعبة واملا في قلوبنا يحثنا على الاستمرار ومقاومة الظلم والظلام .

ساحة الانتظار تلك والتي كانت محاطة بشائك حديدي مطل على حرش من أشجار الصنوبر الشامخة وكأنها تريد أـن توصل لنا رسالة التحدي والثبات في وجه الاضطهاد, رغم ملامحها البائسة ومقاعدها الحديدة المهترأة وسقفها البالي الذي يحجب عنفوان السماء التي فوقنا, ويمنع ضوء الشمس من أن ينير المكان من حولنا, ولكن ارادتنا أبت الا أن تعانق السماء وتحلق فرحا لحلاوة اللقاء الذي ننتظر.

جلسنا ساعات اخرى من الزمن بانتظار دخولنا الى قاعة الزيارة , حينها بدأ المجند بمناداة الاسماء المسموح لها الدخول للزيارة في القسم الاول , تراكض الناس متزاحمين ومدافعين بعضهم البعض غير ابهين للانتظام اومراعاة الدور, كانوا فقط يريدون الوصول بأي طريقة كانت.

أخيرا وبعد انتظار ساعة وربع من الزمن جاء دورنا ضمن القسم الثاني , لنهرع مسرعين الى الدخول من بوابة حديدية " معاطة"  تجاوزناها لنصل بعدها الى المجند الاسرائيلي الذي كان يجلس وراء طاولة خشبية ,مهمته كانت استلام التصاريح والهويات قبل الدخول الى قاعة الزيارة, بدت ملامح اليهودية على وجهه انسان بغاية العجرفة والوقاحة وقساوة القلب كان يصرخ بالناس دون اي احترام او تهذيب كأنه يقول لنا نحن أصحاب الحق هنا, وانتم الجلاد ونحن الضحايا لم يكن يعرف أنه العكس .

اخذ منا تصاريحنا وبطاقاتنا الشخصية نظر الي وقال لي" اه انت زيارة وحدة بس " وقام بعدها بتمزيق التصريح الخاص بي, أشعلني غضبا ليباغتني البكاء مرة أخرى دون جدوى عن التوقف, لم استطع أن أهدا نفسي , وبدأت حينها النساء بتوبيخي والصراخ بوجهي" ما بصير هيك يا بنتي حرام عليكي ما تبكي" , لم أنطق  بكلمة واحدة ولم أعرهن حتى أي انتباه , انتظرنا قليلا قبل الدخول الى بوابات اخرى, وتم تفتيشنا بالكامل وبشكل دقيق جدا, لنعبر بعدها من أبواب حديدية تطل على قاعة انتظار ثانية, كانت تعج بالناس ظننت لوهلة انه الجحيم.

انتظرنا داخل هذه القاعة المغلقة  والتي كانت محاطة بكاميرات مراقبة ومراوح كبيرة جدا لتخفيف الحر والضغط عن الناس, كانت المحطة الاخيرة التي تفصلنا عن قاعة الزيارة , خلال انتظارنا بأن تفتح البوابة الاخيرة لنا جلست اتأمل تلك الوجوه الشاحبة المتعبة ليقع بصري على طفلة لا تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها صاحبة عينين زرقاوين ,  وشعر ذهبي مجعد ,وحذاء بال يحيط بقدميها ,اقتربت مني وبدأنا بالحديث, لاعلم انها جاءت وحيدة من مخيم العروب بمحافظة الخليل لزيارة أخيها الذي لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره  بعد حرمان عائلته من زيارته والسماح فقط لها بالزيارة بعد انقطاع دام اشهر كثيرة .

تمنيت أن أكمل حديثي معها الا أن صوت الحارس باغتنا ليقول " يلا فوتو كلكم"  فقمنا جميعا كالمجانين  مسرعين  فرحين لأنها كانت تلك أخر محطة لنا من العذاب الذي رافقنا منذ الصباح ,مشيت وراء الناس متلهفة  حان الوقت  واخيرا , كانت نبضات قلبي ترافق مسمعي, لنصل بعدها الى غرفة كبيرة مقسمة الى عدة أقسام وكل جانب من جوانب هذه الاقسام ,معزول بزجاج مقوى وعلى جانب كل شباك زجاجي هاتف أبيض اللون, لم ادرك وقتها ما يحصل , بدأ الجميع باتخاذ أماكن لهم ,ونحن فعلنا كذلك , جلسنا قليلا أمام الواح الزجاج تلك , لنسمع بعدها صوت باب كبير يفتح وسط فوضى عارمة , وقفت كالمجنونة لأشاهد حينها الأسرى يدخلون الواحد تلو الاخر بلباس بني قاتم اللون  ووجوه تعلوها فرحة لا توصف.

 وقع نظري حينها على زوجي الذي كان يتجول باحثا عنا أشرت اليه بيداي ولكنه لم يراني ناديت بأعلى صوتي ولكنه لم يسمعني , بسبب العوازل الزجاجية التي كانت تحيط بالمكان , واخيرا وبعد معاناة وجدنا زوجي الاسير لن انسى طوال حياتي تلك اللحظة كم هي مؤلمة وقاسية جدا خليط مخيف من المشاعر .

مؤلم حينما بدأنا بالحديث وجها لوجه عبر هاتف ابيض ثقيل الوزن وشحيح الصوت , يفصلنا زجاج عازل يقتل بنا حلم اللقاء وحلاوة العناق, عند هذه اللحظة  بالذات نسينا كل التعب والذل والاهانات التي مررنا بها  لنعلن لأنفسنا استسلامنا بهدوء  وراء الواح قاتمة وشوق يجتاح المكان رغم ما كان من فوضى عارمة  فالكل كان فقط  يريد أن يتحدث بسرعة وان يطمئن على  بعضهم البعض  بلهفة وقلق كبير من ان ينفد الوقت المخصص للزيارة والذي كان  ساعة الا ربع فقط .

منظر مؤلم  يدمي القلب وفرحة لا توصف حين كان اللقاء وألم كبير وموجع حين تنتهي الدقائق والثواني الاخيرة لهذا اللقاء القصير جدا , والذي لم يشفي غليل شوق وحنين الاسرى وذويهم , ولكنه الواقع المر حين ينتهي الوقت وتقفل سماعات الهواتف,  ليصبح الجميع وقتها صورة بلا صوت الكل بدأ بتبادل القبل وبتوزيع الابتسامات عبر تلك الالواح الزجاجية العازلة كم كان الامر مؤلماً حقا.

لم أكن انا وغيري نريد المغادرة لم نكمل حديثنا بعد, وشوق ما زال في فيض, لينتهي اللقاء بوداع ونظرة مؤلمة تصر على البقاء ولكن  بكل اسف انتهى الوقت المخصص , لنعود ادراجنا خائبين من غدر الوقت والم الفراق عبر نفس المحطات التي دخلنا منها ولكن بشكل اسرع وبدون تفتيش .

خرجنا من السجن لنستقل الحافلات الاسرائيلية مرة اخرى  في حدود الساعة الثالثة والنصف مساء, انتظرنا قليلا حتى اكتمل العدد ,وانطلقنا بعدها وسط هدوء عارم لنعود من نفس الطريق التي جئنا منها , كان الكل متعب جدا من مشقة الطريق وعناء العبور حتى بدا الجميع داخل الحافلة جثث هامدة لاتقوى على الحراك.

كنت جالسة بالقرب من النافذة  أختلس النظر مرة اخرى الى المناظر الخلابة وطبيعة الاراضي الفلسطينية الساحرة , وسط كل هذا لم يغادرني وجه زوجي لأتمنى العودة ولكن لا حول لي ولا قوة.

خلال مسيرة العودة تذكرت صديقة لي ايام الدراسة الجامعية  كانت تحدثني كثيرا عن زيارتها لاشقائها في السجون الاسرائيلية , كانت تحدثني كثيرا دون أن أعيرها يوما اي اهتمام لهذا الموضوع,  لم اكن وقتها استطيع ان  افهم ما كانت تقول وتتحدث عنه, ولم اكن اتخيل حتى كل  تلك المشاهد التي كانت تصفها لي.

ولم اشعر بمشقة التعب والالم والمعاناة وفرح اللقاء والم الفراق التي كانت تحدثني عنها صديقتي!!!

لكن الان يا صديقتي فهمت كل شيء فهمت ما كنت تقصدين به حين تحدثينني عن الالم والمعاناة من مشقة الطريق , الان يا صديقتي حفظت ملامح الطريق الى مجدو والنقب وغيرها من السجون , الان يا صديقتي  بت اعرف ما هو العازل الزجاجي , الان يا صديقتي بت اعرف ما هو الهاتف الابيض الثقيل ذلك, الان يا صديقتي بت اعرف ما البوابات الحديدية تلك التي كنتي تخافين منها , بت اعرف ما هي قاعة الانتظار لأرسم بذلك خارطة الطريق قبل الوصول , الان يا صديقتي بدت لي الصورة الضبابية اوضح واوضح .

وكالة ايلان الاخبارية

mildin og amning graviditetogvit.site mildin virker ikke
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017