يُتهم العرب عادة بالانغلاق والمبالغة في التحفظ، ولكن دراسة في مجلة علمية مرموقة كشفت أن الرجال بالشرق الأوسط في مجال بعينه منفتحون في تفكيرهم الجنسي، لدرجة جعلتها تدعو للاستعانة بتجربتهم لحل مشكلة كبيرة تواجه الغرب.
فقد أظهرت دراسة كبرى نُشرت في شهر يوليو/تموز 2017، في مجلة "أخبار التكاثر البشري"، أو Human Reproduction Update، التي تحظى بتقدير كبير بين مثيلاتها المهتمة بشؤون الخصوبة، أن نسبة الحيوانات المنوية لدى الرجال في بلدان أوروبا، وأميركا الشمالية، وأستراليا، ونيوزيلندا قد انخفضت بنسبة تتراوح بين 50% إلى 60%، خلال فترة 38 عاماً، منذ عام 1973 حتى عام 2011.
ونقل تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن المجلة، أن العوامل البيئية والأساليب الحياتية قد تكون مسؤولة عن هذا الانخفاض الحاد.
إلا أن النتائج النهائية قد تشكل كارثة اجتماعية جديدة، سببها عقم الرجال، مع وجود آثار عاطفية مُحتملة تؤثر على الرجال والنساء، على حد سواء.
ولفتت الدراسة إلى أن هناك مناطق أخرى من العالم قد مرَّت بمثل هذه الأزمة من قبل. فقد عانت منطقة الشرق الأوسط من مشكلات خطيرة تتعلق بخصوبة الرجال منذ عقود. وبالتالي لديهم دروس تعلموها من تجربتهم ليقدموها للعالم.
تشوهات وراثية
ركَّز البحث على دراسة خصوبة الرجال في الشرق الأوسط على مدار الثلاثين عاماً الماضية. واتضح أن هناك انتشاراً لتشوهات وراثية في الحيوانات المنوية –وهي السبب الرئيسي في عقم الرجال- بشكل خاص، وغالباً ما يعاني منها عدة أفراد من نفس العائلة. بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: ارتفاع معدلات التدخين بين الذكور، وتلوث الهواء في المدن الكبرى، والضغوطات الناجمة عن الحروب، وكلها أدت إلى خسائر فادحة في الصحة الإنجابية للذكور.
ونقلت صحيفة الرأي الكويتية، عن رئيس جمعية الخصوبة في الشرق الأوسط قوله، إن نسبة العقم للرجال في المنطقة أعلى من النساء؛ إذ تبلغ حوالي 70% من إجمالي حالات العقم، مقابل 30% للنساء، بينما تتساوى النسبة بين الجنسين في بقية دول العالم، أي 50% و50%.
ومع ذلك، لم تُحقق المنطقة تقدماً تكنولوجياً كبيراً في مساعيها للتغلب على عقم الرجال فحسب، بل شهدت أيضاً تغيراً جذرياً في المواقف الاجتماعية تجاه هذه المشكلة، حسب التقرير.
كيف تغيَّر الوضع في الشرق الأوسط؟
أصبح تحليل السائل المنوي شائعاً على نطاق واسع في مصر بحلول حقبة السبعينيات، وكان المصريون العاديون على دراية كافية بأن الرجال قد يُصابون "بضعف" حيواناتهم المنوية. فقد أظهر التقدم العلمي بوضوح أن العقم ليس سببه النساء فحسب.
لم يكن هذا الوعي العام الواسع لأبعاد المشكلة في هذا الوقت دليلاً على الانفتاح، فالرجل المصري نادراً ما يُفصح عن مشكلات الخصوبة الخاصة به، حتى لأقرب أفراد أسرته.
وظلَّ العقم عند الرجال أمراً شائناً إلى حدٍّ كبير، ويُعزى بشكل أساسي إلى عدم القدرة الجنسية، إذ عادةً ما يُلقى اللوم علانيةً على عاتق الزوجات اللاتي لم يحملن. فغالباً ما يحدث خلط بين العقم –الناتج عن ضعف الحيوانات المنوية– والعجز الجنسي.
ومنذ ذلك الحين، تغيَّرت الكثير من المفاهيم نتيجةً عوامل عدة، منها: التقدم الطبي، والتوعية الدينية، والجهود الحكومية.
إذ تضافرت كل هذه العوامل لجعل علاج العقم الذكوري أكثر سهولة ويسراً. بالإضافة إلى أن الرجال أنفسهم قد لعبوا دوراً جوهرياً في رفع الحرج، بطرق قد يستفيد منها الغرب.
رجال الدين المسلمون أول من أجازوا هذه الأعمال
بدأ التغيير من رجال الدين الإسلامي، الذين كانوا من أوائل القادة الدينيين في العالم الذين أجازوا التخصيب المعملي كحلٍّ للعقم الزوجي.
إذ أجازت الفتوى الصادرة في مصر عام 1980، بإجراء عمليات التخصيب المعملي، وتم اعتماد التكنولوجيا المتطورة في عمليات الإخصاب في جميع أرجاء العالم الإسلامي.
كما شهدت العقودُ التالية لذلك طفرةً في عمليات التخصيب المخبري، وقد أصبح الشرق الأوسط حالياً من أقوى قطاعات التخصيب المعملي في العالم.
شهد هذا التطور الكبير في استخدام التكنولوجيا المتقدمة في أغراض الإخصاب وعلاج العقم طفرةً كبيرةً خلال تسعينات القرن الماضي، من خلال استخدام أساليب جديدة وخاصة من علاجات التلقيح الصناعي، المعروف بحقن الحيوانات المنوية داخل البويضة (الحقن المجهري)، المعروف باسم ICSI أو "إك سي"، وهو بمثابة تقدم كبير يتيح للرجال الذين يعانون من العقم أن يصبحوا آباء.
وكان ظهور التلقيح المجهري في الشرق الأوسط بمثابة ثورة تكنولوجية، تحوَّلت في مرحلة ما إلى ثورة اجتماعية. ومِن ثَمَّ، تزايد سعي الرجال المصابين بالعقم للاستفادة من "عمليات الحقن المجهري" المُعلن عنه، وتحوَّل العقم عند الرجال من مشكلة ذكورية إلى مجرد مشكلة طبية.
وقد أدى انتشار عمليات الحقن المجهري على نطاق واسع إلى "اعتراف" الرجال المصابين بالعقم بمشكلتهم في جميع أنحاء المنطقة، حسب الدراسة.
وقد ساعدت الحكومات في هذه العملية من خلال دعمها لجعل علاج العقم أكثر سهولة عبر التمويل العام. اليوم، رجال منطقة الشرق الأوسط أكثر انفتاحاً فيما يخص مشكلات الخصوبة، ويتحدثون عن هذه المشكلة مع أسرهم، ويتشاركون المعلومات مع أصدقائهم وزملائهم، ويتبادلون الخبرات والتجارب العلاجية مع من يحتاجون المساعدة.
أوضح نبيل، الذي يعاني من العقم، من لبنان، كيف تغيَّرت نظرته خلال دراسته للعقم الذكوري في لبنان عام 2003. ويقول: "الناس يعلمون أنها مشكلة طبية؛ لذا نحن لا ننظر إليها على أنها مشكلة ذكورة أو أنوثة".
ونقل تقرير نيويورك تايمز عن نبيل قوله: في الشركة التي أعمل بها، 4 من كل 5 أشخاص لديهم أطفال من عمليات التلقيح الصناعي. لذا، من الطبيعي أن يتحدث الناس في شركتي عن هذا الأمر. وأنا أتكلم مع الجميع أيضاً عن ذلك، ولا يُقلقني الأمر.
يقول لي رئيسي في العمل، أنت متزوج منذ أكثر من سنتين ولم تحمل زوجتك حتى الآن؟ أرد عليه قائلاً، إنني أحاول، ولكن لم يحدث حمل حتى الآن". كان رئيس نبيل في العمل متعاطفاً معه بما فيه الكفاية ليمنحه إجازات مدفوعة لاصطحاب زوجته إلى عيادة التلقيح الصناعي التابعة للجامعة.
بما أن الرجال مثل نبيل استطاعوا الاعتراف بمشكلاتهم الخاصة بالخصوبة، والبحث عن علاج لها، فقد ساعدوا بذلك في تخفيف العبء الملقى على عاتق زوجاتهم، اللاتي يعانين من مضايقات أقارب الزوج، أو الانطواء الاجتماعي، أو التهديد بالطلاق، أو حصول الزوج على زوجة ثانية.
ومما لا شك فيه، كان استقدام مثل هذه التكنولوجيا المتقدمة في علاج عقم الرجال، وتقبُّل رجال الشرق الأوسط لها، له آثار إيجابية جمة على العلاقة بين الجنسين في جميع أنحاء المنطقة.
حيوانات منوية من رجل آخر
ولفت التقرير إلى أن هناك اختلافات حقيقية وجوهرية بين الشرق الأوسط والغرب، فيما يتعلق بالعقم عند الرجال.
ففي الشرق الأوسط، معظم الأزواج الذين يعانون من مشكلات في الخصوبة، ممنوعون دينياً من الاستعانة بحيوانات منوية قادمة من بعض المانحين، على الرغم من الإجازة الدينية للعديد من العلاجات والتكنولوجيا في هذا المجال، كعمليات الحقن المجهري. أما في الغرب، فلطالما كان استخدام الحقن المجهري متاحاً أمام الجميع، إلا أن تكلفته المرتفعة نسبياً، تجعله بعيد المنال، وعلى الأخص في الولايات المتحدة الأميركية. إلا أن العقبة الرئيسية تتلخص في صمت الرجال عن هذا الأمر، وهنا يمكن أن تكون تجربة الشرق الأوسط مثالاً يُحتذى به.
سبب المشكلة في الغرب
أظهرت الدراسات التي أُجريت في الغرب، أن مشكلة العقم عند الرجال لا تزال مستترة، ويُنظر إليها على أنها أمر شائن، تحمل في طياتها شعوراً بالضعف، وثمة خلطٌ بينها وبين العجز الجنسي، وغالباً ما توصف بعدم القدرة والانتقاص من الذات.
وإذا كانت النساء في الغرب قد أحرزن تقدماً كبيراً في تعبيرهن عن معاناتهن من العقم، فإن تقدم الرجال في هذا المضمار أقل بكثير.
ففي الغرب، لا يزال العائق النفسي حائلاً دون السعي للعلاج، فمعظم الأزواج الراغبين في إنجاب الأطفال، متاح أمامهم إجراء تدخل طبي إذا كانوا قادرين على ذلك. إلا أن ذلك سوف يمثل بالنسبة لكثير من الرجال ألماً نفسياً وعزلة هم في غنى عنها.
تفكير جنسي منفتح لدى العرب!
على الرغم من أن الشرق الأوسط نادراً ما يُتخذ نموذجاً للتفكير الجنسي المتفتح، إلا أن هذه المنطقة تُعد دراسة حالة في قوة إعادة صياغة العقم كمشكلة طبية، وليست مشكلة ذكورية.
ويخلص التقرير إلى أنه يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في هذا التحول، ولكن في النهاية، هناك دور كبير للرجال أنفسهم، وهو الإفصاح عما لديهم من مشكلات خصوبة، خاصة في ظل انخفاض أعداد الحيوانات المنوية لديهم.
هاف بوست عربي