بسام مصباح الأغبر
طالب دكتوراة لغة عربية
يغلب على المسلسلات التاريخية، طابع جمود من الممثلين، وطابع جفوة من المشاهدين، ولكن الأمر مختلف تمام الاختلاف مع المسلسل التركي ذائع الصيت "قيامة أرطغرل"، فلم يحظَ مسلسل تاريخي بهذا الحفاوة والاهتمام، كما حظي به هذا المسلسل، ربما لقناعة الممثلين في الأدوار الموكلة لهم، فكان الواحد منهم، يتقن دوره حتى تظن أنك فعلاً سافرت في آلة الزمان لتعيش في تلك الحِقبة التاريخية مجهولة المعلومات، مشوهة الحقائق، فتتفاعل مع مجريات أحداثها، وتهتم بأدق تفاصيلها، كأنك فرد من أفراد تلك القبائل، أو ربما يكون مردُّ هذه الحفاوة عشق الإنسان في هذا العصر إلى بطولة حقيقية تُبعد عنه ويلات الهزائم المتكررة، والخيانات المتعددة، والحروب الأهلية المدمرة، فالإنسان بطبعه دائم الظمئ للحرية الشخصية، عاشق للبطولة التي تروي صحراء الإنسانية، فحالنا هذه الأيام، لا يختلف عن حال الإنسان قبل خروج السينما، الذي كان يلتف حول الحكواتي؛ ليسمع منه قصة الزير سالم، أو قصة عنترة، أو تلك القصص التي كان يجد فيها ضالته المنشودة، بسبب تراكم الهزائم على كتفه.
نعم، لقد أصبح هذا المسلسل، وجبة إدمان، ينتظر المتابع أن يتعاطاها أسبوعياً، ويَخشى على تلك الوجبة سرعة انتهائها، مع أنها وجبة تَمتدُّ على مدى ساعتين من الزمن، ولو كانت هذه الوجبةُ ندوةً ثقافية، أو محاضرة أدبية، أو أيَّ عملٍ آخر، لتسلل المتابعون لِوَاذاً، ولكنه إِدمان أرطغرل.
لقد استطاع هذا العمل، أنَّ يفسرَ للمتابعين ما يدورُ في العالم الحديث من فساد ومكر ودهاء، مُتَقِمْصِاً عملاً تاريخياً، ليُذهبَ عنه نقداً سياسياً معاصراً، وتراشقاً إعلامياً قذراً لا يمتُ لقواعد النقد الصحيحة، أو مقوماته السليمة. لقد رسم لنا هذا العمل ما يدور في أروقة مجالس الحكم والشورى والنواب بعيداً عن انتمائها لبلد محدد، أو قارة جغرافية معينة؛ فماذا يمكن لنا أن نسمي ذلك المجلس الذي يُغيرُ ثلثا أعضائه رأيَهم مجرد أن يرى بريق الذهب اللامع أو مكاسبَ أنيةٍ سرعان ما تنتهي فائدتها؟ وهل مجالس الحكم في واقعنا العربي الممتد من المحيط إلى الخليج أفضل حالاً أو أقل شأواً؟ وماذا يمكن أن نقول عندما يتم تجيير القوانين لصالح الحاكم وأهوائه الشخصية، كما فعلت شخصية "ديندار" الطموحة للحكم، عندما اعترضت الشخصيتان "بامسي وتورغوت" على قرار الرحيل، فاتهمت هذه الشخصية، أفضل قادتها بعدم معرفة القرارات السليمة، وخروجها على قرار الحاكم الرشيد، ألَّا يحدث هذا في عالمنا المعاصر؟ أليس من يقف في وجه الحاكم أو قرارات المسئول في مؤسساتنا يتَّبع أجندات خارجية ويسعى لتفتيت البلاد والعباد؟ أما الحاكم فرأيه صواب دائما لا يقبل النقاش، والمسئول قراره سليم لا شائبة فيه.
استطاع هذا العمل أن يقدم لنا تلك الخيانات المتعددة، التي ترتدي ثوب الفضيلة، والزعامة، في شخصية "سعد الدين كوبيك" الذي يسعى لإزاحة السلطان، وكم من ساعٍ، في عصرنا، إلى منصب دون مراعاة أواصر المحبة أو الأخوة، أو ردُّ الفضل إلى أهله؟ ألم تبرر تلك الشخصية أعمالها القذرة، عندما تحالفت مع العدو، لتصفية قائد يحمل رؤية استراتيجة بعيدة المدى، يسعى لتحقيق مكاسب لصالح الدولة؟ ولكنها الأهواء التي ترفض أن ترى قائداً أفضل منها.
عندما غاب القائد "أرطغرل" عن القيادة، أظهر لنا هذا العمل، تصرف المجتمع في مثل هذه الأحوال، فكثير من الناس، ولا سيما الطبقة العليا منهم، يبتعدون عن الأهداف التي رسمها لهم ذلك القائد، وهذا من أكثر الأخطاء التي تتكرر مع الزمان بين الدول والجماعات، التي تحمل رؤية تسعى إلى تحقيقها، وهنا، يبرز التساؤل الكبير، هل الرؤية الاستراتيجية خاصة بفرد، أم هي فكرة مجتمعية يسعى الأفراد إلى تحقيقها والوصول إلى غاياتها؟
لعل عودة "ارطغرل" في نهاية الحلقة، يؤكد أن الأهداف التي رسمها القائد يجب أن تتحقق، وإن مات، ومكان القائد لا يجب أن يبقى فارغاً، وهو بذلك يدعو أصحاب الرؤى الاستراتيجية، ضرورة وجود نائب للقائد، أو للفريق، أو للمدير، سمه ما شئت، هذا النائب، عليه أولاً أن يؤمن بأهداف قائده، وعليه ثانياً وأخيراً ألَّا يحيد عن النهج المرسوم.
وبذلك، استطاعت الحلقات الأولى من هذا الجزء الجديد، أن تزيد أعداد مدمني أرطغرل، بانتظار جرعة إدمان جديدة، في الأسبوع القادم.