تحكي لنا رحمة حكايتها وحكاية جدها "كامونقة" في رواية "فستق عبيد" للروائية الأردنية سميحة خريس، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي إحدى الروايات الفائزة بجائزة "كتارا" عن فئة الرواية المنشورة للعام الجاري.
وتدور أحداث الرواية في أكثر من مكان منها: دارفور، وأم درمان، والجزائر، والبرتغال، وجزر الرأس الأخضر، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث يقع الجد "كامونقة"، حين كان فتى شديداً وقوياً في يد تجار العبيد، فيشتريه التيجاني، وهو تاجر سمسم كردفاني، إلا أنه كان عبداً محظوظاً حيث لا سياط ولا أغلال، والعلاقة جيدة بينه وبين سيده لدرجة أنه كان ينسى أحياناً فكرة أنه عبد مملوك.
بقي "كامونقة" يتنقل من مكان إلى آخر مع سيده، إلى أن زار معه أحد المعسكرات فقرر ترك سيده والانضمام للمجاهدين في جيش المهدي بالسودان، لعله يظفر بحريته، فمن ينضم من العبيد إلى "الجهاد" يتم تحريره من العبودية، فعتقه سيده وعتق معه الجارية "اللمون" بناء على طلبه وتوسلاته أن يعتقها معه لتكون زوجته .. وأصبحا يعرفان باسمي: معتوق ومعتوقة.
في البداية أوكلت له مهمة تنظيف بيت شقيق الخليفة يعقوب، ثم انضم لاحقاً إلى الجيش في أكثر من مهمة، لكن الجوع كان له ولرفاقه بالمرصاد، فمات عدد من الجنود ضعاف البنية أما زوجته اللمون (معتوقة)، فكانت بطنها تتدلى أمامها، ووصلت لحافة الموت هي وجنينها بسبب الجوع، إلا أن مرور التاجر التيجاني بالمنطقة أنقذها، حيث اصطحبها معه بناء على طلب معتوق، ليوصلها إلى أهله في دارفور.
هزم الجيش، ومات من مات، وفرّ من فرّ، ومن بينهم كان كامونقة (معتوق) إلى أن وصل إلى أهله حيث زوجته وابنه الذي كان ابن سنتين في "نيالا"، وبقي هناك.. كبر وكبرت معه زوجته وابنه، ورزق بالأحفاد، الذين كان أحبهم إلى قلبه "رحمة"، التي ولسوء حظها وقعت في شباك الأسر والبيع فاشتراها التاجر البرتغالي ساراماغو.
تبدأ الرحلة الصعبة للحفيدة رحمة في أسواق النخاسة، حيث تباع وتشترى وتهان وتغتصب.. يأخذها ساراماغو كهدية لزوجته كارولينا التي تعيش وسط قطيع من العبيد يخدمونها، فهي بنت "الحسب والنسب،" هذه المعاناة التي لا تنتهي بانتهاء الحرب العالمية الثانية.
وتظهر لنا خريس حياة العبيد وما يتعرضون له من مآس بطريقة سردية متفردة، حيث تتحايل على ما يعرف بـ"الراوي العليم"، فتجعل شخوصها كلاً يتحدث ويروي قصته بما لها وما عليها، بأحاسيسها، بقوتها وضعفها، وتغوص في دواخلهم على ألسنتهم، فتارة تسمعنا صوت رحمة حتى نكاد نراها تطل من بين صفحات الكتاب، وتارة أخرى تروي الحكاية بلسان ساراماغو التاجر الذي اشتراها وضاجعها كثيراً حتى حملت منه، ولكنه تخلى عنها بسبب خوفه على مركزه ومن زوجته صاحبة المال وبالتالي التسلط.. على لسان البرتغالي تسرد لنا خريس حكايته حتى تجعلنا نتعاطف معه ونشعر بأحاسيسه، ولو لبعض الوقت.
تعذب كالورينا زوجة ساراماغو رحمة بطرق تقشعر لها الأبدان لتعترف من هو والد مولودتها ذات اللون المختلط، والذي يوحي بأن والده من ذوي البشرة البيضاء، إلا أنها ترفض الإفصاح عنه، فترمى في زريبة الخنازير مع الحشرات والقوارض والروث، حتى تصبح أقرب للأشباح منها إلى البشر، ومع ذلك تصر على رفض الاعتراف بحقيقة والد طفلتها... وتستمر حكاية رحمة وطفلتها التي تعاني ذات مآسي الوالدة، وكأن لا نهاية لمآسي العبيد.
وفي خضم إعدادي لهذه القراءة، جاء صادماً نبأ بيع المهاجرين الأفارقة كعبيد في ليبيا هذه الأيام، ومن يرفض يقتل، وكأننا نعيش زمناً مضى منذ قرون، فالعبودية التي عادت مع سيطرة "داعش" على مناطق في سورية والعراق بمبررات وجدوها دينية، كـ"السبي"، و"الغنائم"، ها هي تبرز بقوة في ليبيا، حيث أظهر تقرير لشبكة "سي أن أن" الأميركية مهاجرين يتم بيعهم بالمزاد العلني في ليبيا، وقد تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماع.
وفي تسجيل التقط بواسطة هاتف محمول، يظهر في التقرير شابان يُعرضان للبيع في المزاد للعمل في مزرعة، ليوضح بعدها الصحافي معدّ التقرير أن الشابين بيعا بمبلغ 1200 دينار ليبي أي 400 دولار أميركي لكل منهما.
ويعبر مهاجرون من دول إفريقية عدة كغينيا والسنغال ومالي والنيجر ونيجيريا وغامبيا الصحراء إلى ليبيا، على أمل التمكن من عبور البحر المتوسط إلى إيطاليا، وهم من يتحولون للبيع في سوق النخاسة 2017!
جدير بالذكر أن قضايا العبودية بدأت تظهر بوضوح في الفترة الأخيرة على مستوى الروايات العربية، فعلاوة على "فستق عبيد"، برزت بقوة في رواية الليبية نجوى بن شتوان "زرايب العبيد"، ونافست على جائزة "البوكر" في دورتها الأخيرة، كما في "شوق الدرويش" للسوداني حمّور زيادة، ونافست على ذات الجائزة قبلها بعامين، ورواية "خرائط التيه" للكويتية بثينة العيسى، وغيرها.
وشددت خريس على أن رواية "فستق عبيد" هي "رواية حول الحرّية وليس حول العبودية"، رغم أنها "تفضح الظاهرة المسمّاة بالرق عبر عصور طويلة"، فـ"مسألة الحرية ترافقني على الدوام منذ رواية يحيى، مروراً برواية بابانوس، وصولاً إلى فستق عبيد".. "كنت مشغولة بموضوع الحرية، ولم أشبع ظمئي منه، خاصة أن هناك تاريخاً مسكوتاً عنه، وتصوراً ذهنياً لا يزال إلى يومنا هذا يطفح بالعنصرية".
واستحضرت خريس في روايتها الأخيرة حادثة جرت قبل أربعين عاماً في السودان، حين نشب شجار بين دبلوماسي أردني وعدد من المراجعين السودانيين "المشهورين كشعب بوداعتهم"، لكونه وصف "الفول السوداني كما هو دارج عندنا بفستق عبيد".. وقالت في حفل إطلاق الرواية بمؤسسة عبد الحميد شومان في عمّان، قبل أقل من شهر: بعد عقود أتكئ على هذه الحادثة كعتبة للرواية، ليس بقصد التجريح بطبيعة الحال، بل بهدف البحث الحقيقي عما وراء إثارة هذا التعبير لحساسية الأفارقة.
ولفتت إلى أن الفستق هذا يسمى في الخرطوم "فول سوداني"، وفي دارفور "مقاوة"، وكان خاطفو الأطفال يأتون بحفنة منه كطعم لاصطيادهم، ومن ثم أسرهم وصهرهم في ترسانة تجارة الرقيق والعبودية.
وأضافت: البطل أراد الحصول على حريته، وكان كل حلمه امتلاك أرض ليزرعها بالفول السوداني، كي يأمن شر وقوع أبنائه وأحفاده في شرك الرق، لكن حفيدته كما ابنته تقعان في مصهرة العبودية، دون "فول سوداني أو مقاوة"، بل بفعل الشبكات المنتشرة لتجارة الرقيق في السودان وعموم الدول الإفريقية.
وأشارت الروائية الأردنية إلى أنها استعادت مرحلة الثورة المهدية في هذه الرواية، وهي المرحلة التي تعرضت لها في المدارس وعبر وسائل الإعلام السودانية وغيرها حين كانت تعيش في الخرطوم .. "كنت أستغرب أن هذه المرحلة لم تبحث كما يجب في الأدب السوداني بالتحديد، لكني اطلعت مؤخراً على روايات لروائيين سودانيين شباب أعادوا الاعتبار لتلك المرحلة"، ولربما قصدت هنا رواية "شوق الدرويش" لحمّور زيادة، واصفة المرحلة المهدية بالملتبسة، فهي رغم مقاومتها للاحتلال البريطاني باعتبارهم كفاراً، واستخدامها لطرق تراها دينية في تجميع الأتباع، إلا أنه أيضاً كان تحمل كثافة لفكر ديني، ربما بعضه متأت من الطرق الصوفية، وبعضه مرتبط بتوجهات وأهداف سياسية، وهي (الثورة المهدية)، بشكل أو بآخر تجسيد لحلم ما لبحث البعض عن حريتهم، أو أن يتخلصوا عبر انضمامهم لجيش المهدي من ظاهرة الرق التي كانت طبيعية، آنذاك، في السودان.
نقلا من الايام