الرئيسية / ثقافة وأدب
غبار من ثلاث قارات
تاريخ النشر: الثلاثاء 28/11/2017 16:34
غبار من ثلاث قارات
غبار من ثلاث قارات

يشجيني أن هذا الجسد الممشوق لفتاة تعبر شارع "لا رمبلا" الآن، سيتحوّل بعد وقت ما إلى غبار. ويواسيني في هذه اللحظة ـ وفي كل لحظة، باليقين ـ أن غالبية البشر لا يرون ما تحت أرجلهم. فلو رأوه لرأوا العدم ساخراً ينتظر الجميع.
واحد من ضحايا الحادث الإرهابي، هو بائع زهور كهل في الشارع. كنت أمر عليه يومياً في طريقي لكورس اللغة، فأصوّر تنسيقاته الجميلة في التاسعة صباحاً، على مدار فصول.
عرفت بعد موته، أنه كان أعزب، وأنه لم يحب في حياته سوى اثنتين: الزهور والتبغ.
الآن أمر، وأحاول ألا أرى كشكه الزجاجي المقفل.
ألا أفتح ذاكرة جوّالي على تنسيقاته.
الآن أفكر: ما أسرع أن تُنسى في شارع يعبره مئات الألوف يومياً.
أتذكر الكهل في غير وقت، كما أتذكر ضحية ثانية، هي سيلبانا بريرا كابريرا. عملت المسكينة سنوات في بلدها بيرو لتوفر ثمن التذكرة.
وبعد قدومها بسنة فحسب، قضت في الحادث.
سيلبانا الغريبة وبائع الورد الإسباني الذي أجهل اسمه، قد يكونا دُفنا أو أُحرقا، للتوفير.
غبارتان في شارع الرمبلا، ما عادتا تمتان بصلة لحشود الغباريين العابرين كل برهة.
والمؤلم ـ ولربما طارد المعنى ـ أنهما ضحيّتان لقاتلٍ هو الآخر ضحية بدوره.
قاتل، وجده الموسوس إسكوادرا (الذي تتلمذ على يد مجرمي الكيان الصهيوني)، منهكاً جائعاً هارباً منذ أيام، فقتله ـ وهو الأعزل ـ بدم بارد، تماماً كما يفعل أساتذته الطاعنون.
تحاول إيجاد خيط من المعنى يلضم القصة، ثم تُقلع متذكراً أن الموضوع برمّته ـ وجودنا على هذه الأرض ـ سائح على بعضه بلا خيوط.
يُقال إن بعض الكتابة أو القليل منها ـ كما نبيذ يسوع ـ منقذٌ من النسيان. لكنني لا أؤمن بذلك. فبنظرة طائر من علٍ (وحتى من الجوانب)، لا يمكن أن يستقيم وهمٌ كهذا، كي يشكّل سنداً لهشاشتنا.
والحقيقة أننا جميعاً ـ كتبنا أم لم نكتب ـ منذورون للنسيان.
ولعل في هذا خير عمومي لنا ـ دون أن نفطن ـ وللأجيال القادمة على نحو الخصوص.
المهم ـ غير المهم ـ أن غبارياً آخر يحاول الآن (وهو العارف مدى غباء مَن يستخدم اللغة كأداة لفهم العالم) يحاول عبر لغة أخرى، تذكر ثلاثة غباريين من ثلاث قارات، شاء حظهم، أن يكون منهم القاتل والقتيل. وأن يكونوا، ضمن غباريين سواهم، وجبة سريعة لميديا لا تشبع، وحلبة لمصارعة ثيران سياسية، وقبل كل شيء: ضحايا للعبة مسرحية كبيرة هم أصغر منها بكثير: لعبة هندسة العالم.
وسبباً، أو تعلّة ربما كي يُذكروا فيُنسوا في هذه الكتابة الغبارية أيضاً.
أخيراً: إذا كان أحدهم ـ بوهم أنه حكيم ـ قال في زمنه المشاعي: من التراب .. إلخ، فالرأسمالية مهندسة زمننا الكوكبي تجزّئ المجزوء: من الغبار جئنا وإلى الغبار نعود.
 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017