الرئيسية / ثقافة وأدب
ما زلت لا أعرف اسمه
تاريخ النشر: الأربعاء 29/11/2017 16:38
ما زلت لا أعرف اسمه
ما زلت لا أعرف اسمه

صادفته أكثر من مرة في انصرافات المدينة، رجل هدوؤه يكاد أن يقول لـ"الصافنين" أو يحاول أن يقول: أنتم في غيبوبة الشعر التي لا تصلها إلا الصفوة المعذّبة. كانت تقاطيع الرجل تفتح دائماً سراديب جديدة أمام المتأملين الذين "ينتعون" جبالهم على ظهورهم. كل شيء حولنا كان يلهث، الواقف يلهث، والجالس يلهث، والغارق في الجريدة ينفض ثيابه ويلهث، والخارج من عيادة الطبيب يلهث، واللاهث يلهث، والفكرة الجميلة تلهث، والذي يحاول أن يقفل الحوار مع علبة الدواء يلهث.
أظن أن عكازة صاحبنا اليابسة، وهمهمات أفترضُها أنا كفرد، كانت تتلمس، أو تجوس، أو تجُسُّ بعض النتوءات الباهظة. كان ثلاثتهم هو والعكازة وما بينهما من لغة، يئنّون أنيناً لا يُسمع، ولا يعرفه إلا الأولاد ذوو الخرافات الجميلة، والذين كان من عاداتهم تأمل كل شيء، حتى بزوغ الليل وتطويع بعض التشنجات المفاجئة التي تتبدل ما بين وقت ووقت.
سمعت الرجل هذه المرة، ثم استمعت إليه وهو يتحدث بلغة شاهقة، يقول لأحد الجلّاس وعكازته معه تتحدث على طريقتها المهذبة، وكنت راغباً وبشدّة أن لا يظهر مني أثر أو شبه أثر على طهارة الغبار الذي يحمل ذاته الساحرة، فكنت صامتاً إلى حد التلاشي.
أو ربما حد التلاشي المفزع:
- أوّاه كم تعذّبنا جميعاً...
السجن أولاً
وثانياً
وثالثاً!
...
لم أسأل سؤالاً واحداً حتى لا ينكسر إيقاع النشيد، أو يتلعثم الزمن.
واسترسلت قامته في الخروج من غاباتها الشفيفة، وكان الرجل المتدفق يدخل بمهابة الداخلين ولا يتحدث عن التفاصيل.
كان يدخل فأدخل معه، وينحني فأنحني معه، ويأخذ نفساً عميقاً فأفتح الطريق. كان الأمر طبيعياً حتى هذه اللحظة.
...
أعرف ذلك.
أعرف ذلك تماماً.


...
وفجأة سمعته يتحدث عن بيت للمسنّين، كنت حريصاً أن تذهب الأيام إلى مفرداتها، أضع حجراً فوق كل مفردة لكي أعود إليها في أزمنتها، فأجمع ما تحت الحصى، فأنا جالس أقرأ وأستقرئ فقط. وربما أفرك المفردات بأصابعي لكي أصدق، رغم أنني كنت أصدق.
كان الرجل يتحدث بفرح:
متجهّمّ لكنه يتحدث بفرح خرافي:
- يقولون إن هناك بيتاً فخماً للمسنين في مدينة...!
يا سلااااااااااام...!
قلت في المخبوء من طويّتي: أيها الإنسان الذي يجلس في هيئة رجل.
ما يعذبني أنني أشعر أن قصائدي دائماً معي، لا أستطيع حتى التلكؤ.
يبحث بلهفة وشهية صادمة عن...
عن ماذا...!
عن بيت للمسنين.
اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة
مرة أخرى فركت أو دعكت تلك الحروف بأصابعي. لو أستطيع أن أرشق بعض الماء على وجهي، رجل مثل هذا يبحث بنفسه ولنفسه عن بيت للمسنين.
خبأت نفسي بين أشجاري وأخذت أنسحب إلى حد التجلي.
...
وبعد أيام، عدت إلى صديق كان جالساً، سألته بتردّد، فأكد لي أنني فعلاً كنت أجلس معهم يومئذ في ذلك المكان. 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017