تحتل أفلام ومسلسلات الغرب الأمريكي ــ أفلام رعاة البقر ــ مرتبة متقدمة جدا في تاريخ الأفلام السينمائية والتلفزيون الأمريكيين، بسبب شعبيتها الواسعة في أوساط الجمهور العالمي، كما كانت بداية نجومية الكثير من كبار الممثلين مثل جون وَين، كلنت أيستوود، ستيف ماكوين، روبرت ريدفورد، تشارلز برونسن وآخرين. ولا تخلو هذه الأفلام من العيوب الكثيرة، أهمها انحرافها عن حقيقة الوقائع التاريخية، ومحاولة تجميل شخصيات معينة عن قصد. هذه الأفلام التي جسدت نهاية عصر رعاة البقر وأهم شخصياته، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. فأفلام مثل.. «شَين» و«العظماء السبعة» و«توم هورن» دارت حول مصير مجرمين كانوا يعانون من نهاية عصرهم، حيث كبرت المدن وظهرت وسائل النقل الحديثة، وتغير شكل الاقتصاد، وازدادت سلطة الدولة.
الفيلم ألأشهر
ويعد فيلم «بوتش كاسيدي وذا سندانس كد» Butch Cassidy and the Sundance Kid.. أشهر أفلام رعاة البقر قاطبة، حيث جمع بين اثنين من ألمع الممثلين وأكثرهم وسامة وجذبا للجمهور، هما بول نيومان وروبرت ريدفورد. تدور الأحداث في ولاية وايومنغ الأمريكية في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، عن اثنين من أشهر المجرمين في تاريخ الغرب الأمريكي، هما «بوتش كاسيدي» /بول نيومان، و«ذا سندانس كد»/روبرت ردفورد. كان «بوتش» زعيم عصابة «الزمرة الهمجية»، التي اختصت في السطو على المصارف والقطارات، واعتبرت الأكثر نجاحا في هذا المجال في تاريخ الغرب الأمريكي. وقد ظهر «بوتش» و«سندانس» كرجلين في منتهى التحضر، حيث يحاولون دائما تجنب استعمال العنف وتفضيل التهديد والخداع، ويحملان نزعة للسعادة والمرح الدائمين. يقرر «بوتش» سرقة قطار محمل بالمال والركاب في طريقه إلى وجهته النهائية، ثم سرقة القطار نفسه مرة ثانية أثناء عودته. وتنجح عملية السطو الأولى، فيحتفل «بوتش» و«سندانس» في أحد بيوت الهوى بنجاحهما ثم يزوران «أيتا» /كاثرين روس، عشيقة «سندانس» التي تعمل معلمة في مدرسة. وفي أثناء سطوهم على القطار في طريق عودته هاجمتهم فرقة من ستة مسلحين محترفين فتفرق أعضاء العصابة، إلا ان المُطاردين طاردوا «بوتش» و«سندانس» فقط، وبعد أن اعتقدا أنهما قد اصبحا في مأمن من المُطاردين ذهبا الى بيت الهوى نفسه للاستمتاع بوقتهما، إلا أنهما اكتشفا ان المُطاردين أصبحوا قريبين من هذا المكان فهربا مرة أخرى، وتوجها الى «أيتا» التي أبلغتهم بأن المُطاردين هم مجموعة من المحترفين، وقد تم توظيفهم من قبل صاحب شركة السكك الحديدية لقتلهما. وهنا يقترح «بوتش» السفر إلى بوليفيا ووافق «سندانس» و«أيتا» على اقتراحه. فانتقل الثلاثة إلى بوليفيا حيث قاموا بالسطو على عدة مصارف بالاشتراك مع «أيتا». ومع ذلك شعر الثلاثة بأن المُطاردين الذين أرسلهم صاحب شركة السكك الحديدية قد لحقوا بهم إلى بوليفيا، فقرروا التخلي عن الإجرام، والعمل الشريف، لكن جميع محاولاتهم فشلت، فقررت «أيتا» العودة للولايات المتحدة، لأنها لا تريد أن تراهما يُقتلان أمامها في بوليفيا. بعد ذلك يستمر «بوتش» و«سندانس» في أعمال السطو حتى ينتهي بهما المطاف في منزل قروي محاصرين من قبل جنود الجيش البوليفي. وبعد تبادل النيران قرر الاثنان الخروج من البيت لمواجهة الجنود، وما أن يقوما بذلك حتى تتجمد الصورة وينتهي الفيلم. أنتج الفيلم عام 1969 ويُعد أكثر أفلام الغرب الأمريكي نجاحا على الإطلاق، كما حصل على أربع جوائز أوسكار.
ماذا يقول التاريخ؟
ولكن كم نسبة الصدق في الفيلم من ناحية تاريخية الوقائع؟ فبخلاف أن بوتش كان اسمه الحقيقي (روبرت ليروي باركر) وسندانس اسمه (هاري لونغبو)، كما أنهما لم يقتلا أحداً في الولايات المتحدة، لكن عصابتهما عرفت بالعنف والقسوة، وكان أحد أعضائها من مشاهير المجرمين آنذاك ويدعى «هارفي لوغان»، قد قام بقتل تسعة من أفراد الشرطة. وكان بيت الهوى الذي ظهر في الفيلم وكانت تديره امرأة إنكليزية، كانت عصابة «الزمرة الهمجية» تجتمع فيه. فقد تعرف «سندانس» على «أيتا» فيه لأنها كانت تعمل هناك، ويقال إنها كانت سابقا تعمل مدرسة بيانو. ولا توجد غرابة في هذا، فقد تردد رجال العصابات على مثل هذه الأماكن بكثرة ويظهر هذا بوضوح في أغلب الأفلام والمسلسلات عن الغرب الأمريكي. وكان أفراد الشرطة أيضا من «ضيوف» هذا البيت. أما الفرقة التي طاردتهم فقد كانت تابعة لشركة «بنكرتن» التي لا تزال موجودة حتى الآن وتمارس عملها، وكانت آنذاك أشهر شركة محققين خاصين في الولايات المتحدة، ولها سجل حافل في القضاء على العصابات والتحقيق في الجرائم التي عصيت على الشرطة، وكانت لديها ميليشيا خاصة بها، وكان صاحبها من زبائن بيت الهوى الذي كان «بوتش» و«سندانس» يترددان عليه. و كانت لدى شركة «بنكرتن» معضلة التعرف على أفراد العصابة، حيث أن صورهم التي كانت في حوزتها كانت قديمة.
ولكن حل المعضلة أتى من العصابة نفسها، لأن الشركة اكتشفت أن أفرادها من الغباء وحب الاستعراض، إلى درجة أنهم اتفقوا مع صاحب ستوديو للتصوير على أن يلتقط صورة جماعية لهم وهم في قمة أناقتهم، حتى أن صاحب الاستوديو وضع الصورة في واجهة المحل. وبهذا تم قتل أعضاء العصابة الواحد تلو الآخر باستثناء «بوتش» و«سندانس» وقد هربا إلى بوليفيا عام 1901.
لصوص وسيمون
وإذا يعتقد القارئ أن روبرت ريدفورد وسيما فإن «سندانس» الحقيقي كان يعادله وسامة، أما «أيتا» الحقيقية فقد كانت أجمل من الممثلة التي مثلت شخصيتها، كما كانت تتكلم إنكليزية راقية، وهي ماهرة في استعمال البندقية. لكنها لم تعد الى الولايات المتحدة لخشيتها أن تشاهد مقتل رفيقيها في بوليفيا، بل لأنها سئمت حياة الهرب واشتاقت إلى حياة الاستقرار.
والغريب في الأمر أن «أيتا» لم تخش احتمال القبض عليها في الولايات المتحدة، على الرغم من أنها كانت مطلوبة من قبل الشرطة.
مصير أكثر سينمائية
هناك جدل كبير حول مصير «بوتش» و«سندانس»، فقد اكتشف أن الرجلين الذين قتلا في بوليفيا بعد عملية سطو مسلح هناك عام 1908 لم يكونا «بوتش» و«سندانس»، إلا ان أخبار الرجلين انقطعت في تلك الفترة ولم يُعرف شيء عن مصيرهما. وكانت شقيقة «بوتش» تدّعي أنه عاد إلى الولايات المتحدة وتوفي هناك لأسباب طبيعية. وقد عاشت هذه الشقيقة طويلا حتى أنها حضرت تصوير الفيلم. ويشير المؤرخون أيضا إلى أن فتاة جميلة ذهبت إلى السفارة الأمريكية في تشيلي عام 1909 طالبة مساعدة السفارة في الحصول على شهادة وفاة لـ«سندانس» بدون نجاح. ويعتقد أن هذه الفتاة كانت «أيتا»، وهذا لا يؤكد وفاة «سندانس» لأنه إذا استطاعت الحصول على شهادة الوفاة فإن هذا كان سيوقف ملاحقته من قبل الشرطة وشركة «بنكرتن»، ولذلك فإنه من الممكن القول إن محاولة الحصول على شهادة الوفاة كانت مجرد خدعة. وفي الأخير.. اعتبرت مكتبة الكونغرس الفيلم عام 2003 .. «مهما من النواحي الثقافية والتاريخية والجمالية».
المصدر: القدس العربي