يعد فن السينما مجالا تخييليا خصبا، كونه يتأسس على نظام حكي مبني على توالي اللقطات والمشاهد، من خلال الصورة، فالسينما في صياغتها لحكاياتها، تستند إلى الصورة وإلى العناصر الأخرى المكونة لصناعة الفيلم، في حين أن الرواية تنسج باللغة ومن خلال اللغة. فإن تنقل عملا أدبيا إلى السينما معناه أن تنتقل من صيغة السرد المكتوب إلى صيغة السرد البصري الذي تتجاوز فيه الصورة السينمائية نظيرتها الأدبية من حيث قدرتها على نقل المتلقي إلى مجال الخيال الذي يتأسس على واقعية فيلمية تقترح شخوصا وأمكنة وحياة فيلمية ملموسة.
الرواية والسينما
والرواية تشترك في الكثير من خصائصها وعناصرها مع المجال السينمائي، وهو ما يؤهلها، في مقابل الأجناس الأدبية الأخرى، لأن تتحول إلى فيلم سينمائي، خاصة أنها تلتقي مع الكثير من عناصر بنائه، وأولها السرد، كما يذهب إلى ذلك رولان بارت، «أن السرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة شفوية كانت أم مكتوبة، كما يمكن أن تحتمله الصورة ثابتة كانت أم متحركة». لكن هذا السرد إذا كانت عملية تحققه في الرواية تتم بواسطة اللغة، أي بواسطة متواليات جملية، كل جملة منها تحقق معنى دلاليا خاصا بها، لكنها في المقابل تشكل لحمة متناسقة ومنسجمة مع باقي الجمل التي تجاورها في المعنى الكلي للعمل الروائي، فإنه في الفيلم السينمائي يتحقق عن طريق الصور، أي عن طريق متواليات صورية، كل صورة منها تقدم معنى دلاليا خاصا بها، لكنها مثلها في ذلك مثل الجملة في اللغة، تساهم في تشكيل المعنى الدلالي العام للفيلم وهي تتصل بباقي الصور المكونة له، وكما أن اللغة ليست بريئة كما يذهب إلى ذلك رولان بارت نفسه، إذ أنها تحمل معها ذاتية كاتبها وثقافته، فإن الصورة هي الأخرى «تحل محل الكلام الذي نعرفه في الرواية، فإنها تتجاوز كونها مجرد التقاط لواقع عيني مقرر سلفا، ذلك أن زاوية التقاط هذه الصورة تنقذها من طابعها الميكانيكي المحض وتسمو بها نحو الفن». على حد تعبير كريستيان ميتز.
بنية السرد البصري
والسرد لا يمكن إدراكه إلا انطلاقا من نمط الحكي المتبع من طرف الروائي أو السينمائي، غير أن هذا الأخير يدمج في عملية حكيه عناصر لا حصر لها تجد صيغتها النهائية في المونتاج، بل تجد السينما «اكتمالها» الحكائي في المونتاج وبواسطته، فدلالة الصور واللقطات في الشريط تأتي من النظرة العلائقية للمونتاج، التي «لا تقتصر على اعتبار أن الدلالة تبرز نتيجة توالي لقطات أو متواليات، وإضافة شذرات من الواقع بقدر ما تأتي من تكسير التوالي والتتابع، لدرجة أن بعض السينمائيين أمثال أورسن ويلز وأنطونيوني يضعون أفلاما تتولد معاني لقطاتها من بين الصور المكونة للمتوالية، حسب التنظيم البنيوي الذي ينسجها». فالمونتاج يلعب دور الحلقة التي تربط بين لقطات الفيلم من خلال الربط بينها، فيشكل بذلك حلقة سردية صورية، تترابط في ما بينها بشكل يتوافق مع التنظيم الزمني والمنطقي للأحداث، وهذ ما يخلق نسيجا سرديا منظما تتخلله مجموعة من اللقطات التي تتشابك في ما بينها لتشكل الدلالة العامة للفيلم، علما بأن كل لقطة متفردة تشكل صورة ذات دلالة إيحائية خاصة بها، لنحصل في النهاية على مجموعة من اللقطات التي تشكل صورا متعددة، تتآزر جميعا من أجل توليد المعنى الدلالي العام المنبثق من الصور الجزئية الخاصة، شأنها في ذلك شأن التركيب النصي في الرواية، الذي يبحث عن العلاقات النحوية والدلالية والتركيبية، التي تشكل بنية النص وتخلق انسجاما واتساقا بين وحداته، فتنسج من خيوطه وحدة معنوية عامة تشكل لب النص وكيانه الأساس.
الأسلوب والسرد
وتتجلى جمالية العمل السينمائي من خلال تقنية الحكي، لدرجة أن الأسلوب، كما يقول أندريه بازان يتطابق بشكل كلي تقريبا مع تقنية الحكي. وإذا كان الفيلم يتقدم دائما، بوصفه تواليا لشذرات من الواقع في الصور، وأنه يخلق واقعه الخاص في صور، فإن «نظام ومدة الرؤية يمنحان المعاني المناسبة للقطاته». فالانتقال من شخص إلى آخر ومن مكان إلى آخر يشكل الحيز الزماني والامتدادي للسرد السينمائي، وهذا ما يولد تسلسل الأحداث ويعطي الانطباع بالتحول من وضع إلى آخر، وفق خط كرونولوجي معتمد على الحذف أو الاستباق أو الاسترجاع. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للفيلم، فإن الرواية تستمد معانيها من معاني ألفاظها، وتصوغ صورها بواسطة علامات اللغة وتقنيات البلاغة، انطلاقا من مادة خام لغوية أسلوبية تساهم في خلق عنصر الإبداع، وتشكل وحدات بلاغية وتعبيرية تحيل إلى خصوصيات واختيارات الكاتب.
أزمنة الحكي
وعلى الرغم من اختلاف الوسائل التعبيرية بين الرواية والفيلم، إذ أن المشاهد السردية الروائية تتكون نتيجة التوهم والتماهي بين النص وقارئه، وهي ترتبط بنوع القراءة وكفاءتها وفعاليتها، فيما تتكون المشاهد السردية السينمائية من التجميع البصري لمجموعة من المعطيات المرئية.
من هنا فإن محتوى التعبير واحد مشترك بينهما، يمكن تحديده وفقا للتصورات والرؤى السابقة على أنه (الحكاية)، بغض النظر عن الاختلافات الشكلية والمضمونية. وبما أن كشوفات السرد المعاصر لم تخرج عن فكرة أن الزمن يمثل النظام الأساس لطرائق ترتيب المتون الحكائية، رغم تباين الأزمنة، مثل.. زمن (تيار الوعي) وزمن (وجهة النظر) وزمن (اللازمن)، هذا فضلا عن التصور العميق عن تداخل الزمان بالمكان، حيث يميل الأدب الحديث إلى أن يتميز بالشكل المكاني أكثر مما يتميز بالشكل الزماني، والحقيقة أن أكثر أشكال الأدب مكانية إنما تضمر في داخلها المكاني بعدا زمانيا، وتبعا لصيغ توالي المتون في الزمان تتكشف مجموعة من الأنساق البنائية، تتصف بخصائص معينة ويمكن تحديد تمظهرها في السينما بما يلي ..
نسق التتابع
وفيه تقدم مكونات الحدث الفيلمي وفق نظام منطقي يراعى فيه الترتيب الزمني، وهو النسق المهيمن على الأفلام المقتبسة من الروايات التقليدية، خاصة روايات القرن التاسع عشر الكلاسيكية مثل: رواية شارلوت برونتي «جين اير»، ورواية «موبي ديك» لهيرمان ميلفيل، ورواية «الشيخ والبحر» لإرنست همنغواي، وغيرها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا النسق لم يختف باختفاء الروايــــات التقلـــيدية، بل وجـــد له مكانا مهما أيضا في الرواية والفيلم المعاصريّن، وللتمثيل على ذلك نحيل إلى رواية أومبيرتو ايكو «اسم الوردة» التي أخرجها جان جاك أنود عام 1986.
نسق التداخل
وفيه تتداخل مكونات المتن في ما بينها، بسبب الوقفات والارتدادات والقفزات، وتقع على عاتق المتلقي إعادة ترتيب مكونات المادة الحكائية وتنظيمها وفق سياقات معينة، ويمكن الإحالة إلى تجارب الروائيين من رواد (تيار الوعي)، كرواية فرجينيا وولف «السيدة دالاواي»، أما السينما فإنها حافلة بالأفلام التي تجتهد في إطار مراوغة المشاهد، ولنتذكر فيلم «بينك فلويد ـ الجدار» 1982 إخراج آلان باركر، و«سوناتا الخريف» 1978 لبيرغمان، ومؤخراً فيلم «21 غراما» 2003 إخراج اليخاندرو غونزاليس أناريوتو.
نسق التوازي
وفيه تُجزأ مكونات المتن السردي إلى أكثر من محور، بحيث تتعاصر زمنيا، وإن اختلفت في المكان، وتقدم متوازية، بما يفضي أخيرا إلى ضرب من ضروب الاندماج العضوي، كما في رواية كونستانتان جيورجيو «الساعة الخامسة والعشرون»، والفيلم المقتبس عنها عام 1967 إخراج هنري فيرنيويل، ورواية «امرأة الملازم الفرنسي» لجون فوليس، والفيلم المقتبس عنها عام 1981 إخراج كاريل ريز، إضافة إلى فيلم «أيريس» 2002 إخراج ريشارد يير.
نسق دائري
وفيه تنطلق مكونات المتن الحكائي من نقطة نهاية أحداث الحكاية ثم تعرض ما سبقها، لتنتهي من جديد عند نقطة البداية نفسها، وفيه يكون اتجاه الزمن انحداريا، ولا نجد تفسيرا لما يعرض إلا بالعودة إلى الماضي. وغالبا ما تعتمد روايات السيرة مثل هذا النسق، كرواية «أغنية للذكرى» لإرنست ماريستشكا، وفيلم «أماديوس» 1984 إخراج ميلوش فورمان، والفيلم المصري «الشرف» 2000 إخراج محمد شعبان المقتبس عن رواية محمد البساطي «بيوت وراء الأشجار» .
نسق التكرار
وفيه تتكرر مكونات المتن الحكائي في الرواية والفيلم أكثر من مرة، تبعا لتعدد الرؤى وزوايا النظر، ولهذا فإن المتن يعاد إنتاجه في كل مرة بما يتفق مع المنظور الذي يقدمه، كما في رواية «الصخب والعنف» لوليام فولكنر، ورواية «رباعية الإسكندرية» للورنس داريل، وفي مجال السينما فيلم «راشامون» 1950 إخراج أكيرا كوروساوا المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لرينوسوكي أكوتاجاوا، وفيلم «موت في غرناطة» 1997 إخراج ماركوس زوريناكا.
الصوت السردي
من ناحية أخرى فإن هذا الاختلاف في الأشكال السردية والأنساق الحكائية المميزة لها، تفرض تنوعا واختلافا في وجهات النظر السردية في كل من الرواية والسينما، ففي الرواية تتأسس وجهة النظر السردية انطلاقا من علاقة الراوي بالمادة الروائية، من خلال وعي ولغة راوي القصة، الذي قد يكون أو لا يكون مشاركا في الفعل، أما في السينما فوجهة النظر تكون أقل قوة من الرواية، رغم أن هنالك بدائل سينمائية لأشكال السرد الأساسية، التي تتجلى في الآتي..
الراوي المراقِب
وهو يروي قصته الخاصة به، وفي بعض الحالات يكون مراقبا موضوعيا يمكن الاعتماد عليه في سرد الأحداث بدقة، ومن الأمثلة على ذلك نيك كاراواي في رواية سكوت فتزجيرالد «كاتسبي العظيم» التي تحولت إلى فيلم سينمائي أربع مرات، كان آخرها السنة الماضية، حينما جسدها المخرج الأسترالي باز لورمان. وفي بعض الحالات يكون راوي الشخص الأول أكثر ذاتية في تدخله بالفعل الرئيسي ولا يمكن الاعتماد عليه بصورة كاملة، ويقوم الكاتب بحل هذه المشكلة عن طريق تزويد القارئ بالإشارات التي تساعده في رؤية أوضح من رؤية الراوي نفسه، كما في رواية «هكلبري فين».
الراوي العليم
ويرتبط في الأغلب بالرواية في القرن التاسع عشر، والراوي هنا لا يشترك في القصة وإنما يكون ملما بكل شيء، بما في ذلك أحاسيس الشخصيات وأفكارها، يزود القارئ بكل الوقائع التي يحتاجها، ويمكن لهذا النوع من الرواة أن يكون منفصلا عن القصة كما في «الحرب والسلام» لتولستوي، ويمكنه أن يتخذ له شخصية متميزة كما في «توم جونز» حيث يمدنا بملاحظاته وأحكامه المتباينة.
الراوي من الخارج
أو الشخص الثالث، فالراوي لا يشترك في الأحداث، وإنما يروي قصة من خلال وعي شخصية واحدة، وفي السينما هنالك معادل تقريبي للشخص الثالث إلا أنه ليس قويا كما في الأدب، حيث نجد عادة هذا الراوي يهيمن بكثرة في الأفلام التسجيلية، حيث يعلق مجهول يروي لنا خلفية الشخصية المركزية، كما في فيلم «الرجل الهادئ» لسدني ماير، حيث تقوم المرئيات بالبناء الدرامي لأحداث عنيفة معينة في حياة شاب فقير في دونالد.
الراوي المحايد
ونادرا ما تستخدم في الروايات، رغم أن الكتاب يستعملونها أحيانا في القصص القصيرة، والصوت المحايد تنويع لشكل الراوي العليم، لكنه أكثر انفصالا، بحيث لا يدخل وعي أي من الشخصيات وإنما يخبرنا بالأحداث فقط من الخارج مثل آلة التصوير التي تسجل الأحداث بتجرد وبدون تحيز، وتسمح للقارئ بأن يفسر بنفسه تطور الأحداث، وهذا النوع يلائم أكثر السينما، حيث تقوم هذه الأخيرة بالاستخدام الحرفي للكاميرا، وتستخدم كثيرا من طرف المخرجين الواقعيين الذين يبقون آلات تصويرهم في لقطة بعيدة، ويتجنبون كل التشويهات التي قد «تعلق» على الحدث مثل الزوايا أو العدسات.
المصدر: القدس العربي