في ريف حاجب العيون حيث عشت طفولتي الأولى، كانت الينابيع في كل مكان، والمدينة نفسها سميت بهذا الاسم لكثرة مائها؛ وكان يكفي أن يحفر الفلاح أقل من مترين أو ثلاثة أمتار، حتى يندفع شلال من الماء العذب.
وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، انتقلت أسرتنا إلى القيروان، وفيها اكتشفت أن الماء الصالح للشرب، لا يجري في كل الدور والمنازل؛ وكان كثير من أهلها يتزودون بحاجتهم من السقائين في القِرَبِ وعلى الحمير. كانت القيروان لا تختلف في هذا، عن مدن تونسية أخرى في وسط البلاد وجنوبها؛ ولكنني أحببتُ فيها الساحة الواسعة التي تتوسط السوق والمقاهي، خاصة نافورتها الملونة التي لا يدور ماؤها إلا في المناسبات. ما يعنيني هنا هو الماء وسيميائيته، أو هذا الطابع الاستثنائي الذي ما انفك يحمله حتى حفلت به العربية على نحو غير مألوف، وصار أساسيا في بناء أكثر من معنى. ولا يذهبن في الظن أن افتراضاتنا عليه، في ما يأتي من كلامنا؛ تكلف لا طائل منه، فهو الذي قادنا إلى إعادة وصف المقول المائي، وإبراز طابعه اللغوي الخالص، حيث «الأشياء» لا تحيل إلى خارج لغوي، بل إن معنى الماء لا يجوز المرجع، أو يعبر منه ولا هو وقْفٌ عليه. وربما أحال عليه، ولكن بصورة ثانوية، إذ يمكن أن تكون هذه اللفظة أو تلك هي التي استدعت لفظة الماء؛ فذُكِرَ بها مشاكلة لوقوعه في صحبة اللفظة الأولى. وفي ما عدا هذه الفرضية، فإن لفظة الماء هي التي تصل بين وحدات المقول الدلالية، بدون أن تنهض بوظيفة تعيين مخالفة أو تجاوز أو انتهاك. إنما هي تشارك في إنشاء المعنى أو الدلالة الحاصلة في تجميع مفردات إيحائية، هي المقصودة أو هي الأظهر في صيغة العبارة.
ومن المفيد أن نتنبه إلى أن صور الماء، شأنها شأن صور أخرى كثيرة؛ محكومة عند قليل أو كثير من القدامى بنظرة «ذرية أنطولوجية» إلى اللغة، حيث الكلمات المفردة تتمثل الأشياء في الواقع؛ وكأن الأشياء مخلوقات تخلقها الألفاظ، أو أن اللغة ليست سوى مجموع الألفاظ التي اشتقها الناس من الأشياء التي حولهم.
تقلّب الماء عند العرب في أطوار لغوية عدة فتصرفوا فيه، وهم الذين احتشدوا له بالشعر والقرآن والمأثور، وحولوه عن وجهه وانتقلوا من ظاهر إلى باطن، ومن مشكل معنى إلى مشكل اصطلاح؛ والماء ما بين إسرار وإعلان، يُخفي ويستتر حتى يكاد لا يعرف فيه وجه من وجه. فوقف بعضهم على تخوم المعنى الظاهر وعلى حدود التركيب، وحمل اللفظ على اللفظ. وتوخى بعضهم طريق التشبيه لما ترسخ لديهم من أنه الأصل في بنية الاستعارة المائية. وربما لم يكن ذلك بالفهم الجائر منهم، إذ كان يصعب عليهم مثلما يصعب على كثير من المعاصرين أن يتصوروا الاستعارة منفصلة عن بنية المشابهة منْفرقة عن العلائق التي تربط بين أطرافها «لأن موضوع الاستعارة ـ كيف دارت القضية، على التشبيه». وذلك حتى في صنف من «الاستعارة الصحيحة» مما «لا يحسن دخول التشبيه عليه «بعبارة عبد القاهر الجرجاني؛ وعدم دخول التشبيه لا يعني انتفاء المشابهة، بل ثباتها وتمكنها، إذ يجوز في هذا الصنف من الاستعارة حكم الشبه، ويتصرف في طرفيها حتى أنه يستحكم في الصورة على قدر ما يستحكم على متلقيها. وكأن الشبه لخفائه ودقة مسلكه شبهة أو التباس، بل هو كذلك في الاستعارة من حيث هي «بنية تداخل بالمطابقة» تمحي فيها الحدود والفواصل بين الأشياء والماهيات. فإذا كانوا قد اختلفوا في هذه الاستعارة المائية أو تلك، فإن اختلافهم فيها ليس في معناها أو دلالتها ولا هو في صوابها أو بطلانها أو في حسنها أو رداءتها حسب؛ وإنما هو في وصفها وفي المصطلح الحَقِيق بها أيضا. ويدرك الباحث في البلاغة العربية أن مرحلة عدم استقرار المصطلح البلاغي قد استمرت طويلا لدى السابقين على عبد القاهر، من الذين رضوا المصطلح العام «التشبيه» أو «الاستعارة» بدون تدقيق أو تفصيل، بل إن بعضهم لم يشغل نفسه بالبحث عن مصطلح، على قدر ما اشتغل بما وراء الصورة من أغراض ومسوغات منطقية وجمالية. ثم كان ما كان من ندرة المصطلح إلى تشعبه مع المدرسة السكاكية، وما آل إليه من تنظيم وترتيب وجمع الجزئيات والأشباه والنظائر؛ بما يوفر الجهد ويساعد على الاستذكار، وإن في قليل أو كثير من الإطناب والفضول والاستطراد.
أما استعمالات «الماء» الاستعارية في المأثور من الشعر مثل «ماء الهوى» و«ماء الصبابة» و«ماء البين» أي الفراق، فيمكن أن نقرأها اليوم سيميائيا استئناسا بهذه النظرية السيميائية أو تلك؛ فثمة وسط دلالي علاماتي يجري به الماء، حيث العلامة تنوب مناب شيء آخر، والمتكلم أو المخاطب الذي يدرك الإشارة. وفي هذا السياق يكون الماء أيقونة حينا (ماء زمزم مثلا) ورمزا حينا. والأيقونة إنما تنهض بوظيفتها على أساس من المشابهة بين العلامة ومرجعها، أما الرمز فقد لا يكون أكثر من معادل للعلامة نفسها؛ وهل صلة الرمز بمدلوله أكثر من صلة رسخها الاستعمال والعرف، وتواضع عليها الناس في استعمالاتهم؟
وقد خلص القدماء إلى أن هذه الاستعمالات، استعارات يراد بها الدمع وليست حقائق. واعترض من اعترض نافيا أي شبه بينها وبين «ماء الملام» في بيت أبي تمام؛ فـ»ماء الهوى» ليس استعارة، لأن الهوى يبكي، ودموعه ماء على الحقيقة، وكذلك «البين» فهو يبكي ودموعه ماء على الحقيقة، كما زعموا؛ على حين أن «ماء الملام» استعارة، وبالتالي فإن هذا الماء لا يمكن أن يحمل على الحقيقة أي «الدمع» إذ لو كان كذلك، لما استعفى منه الشاعر بقوله «لا تسقني». والحق أنها كلها استعارات حية في أصلها ومنبتها، وربما حجب عنها الاستعمال والألفة؛ والمراد بـ«الماء» في قولهم كلام «كثير الماء» و«ماء الشباب»، و«ثوب له ماء»، إنما هو الرونق والطلاوة. غير أنك لو قلت:»ما شربت أعذب من ماء هذا الثوب» بما أنهم يقولون «ماء الثوب»، أو «ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة» بما أنهم يقولون «ماء الشعر»؛ لعدّوه قولا مضحكا، أو لعبا لغويا لا طائل منه. وليس بميسورنا أن ندفع بحججهم، فهم وإن لم يستخدموا مصطلح السيميائية، ألموا به؛ وتنبهوا إلى أن رمز الماء أو أيقونته لا يختص بحقيقة الماء، وإنما بصفات أحبوها فيه مثل الرونق والطلاوة والحسن والبهجة والإشراق والسحر؛ وليست الماء في ذاته. ومن هذه الصفات اشتقوا صفات أحبوها في الكلام المستساغ مثل السلاسة والسهولة والانقياد واللين.
إن لفظ «الماء»، في هذه الإضافات وغيرها وهو كثير في مأثور العرب مثل ماء الوجه وماء الحسن وماء السيف، بل في أخرى لا يتبادر منها إلا الظاهر بنفسه مثل ماء الذهب وماء الفضة وماء الورد وماء الزهر، لفظ مموه يُلبس المضاف إليه ويزخرفه ويزوره؛ إذ يضفي عليه التركيب سمات جديدة هي خلاف ما هو عليه. فلا يعود هذا اللفظ يدل على ما وجد له أصل، مما توهموا أنها معاني الماء على الحقيقة، شأنه شأن لفظ «الدمع» مثل دمعة الكرم: الخمرة، والمكان الدامع: الذي يتحلب منه الماء، وماء الدماع: ما يسيل من الشجرة إذا قطعت، أو الثرى يتحلب ندى، والدمعان: القدح يمتلئ فيفيض… بما يغري بالقول إن بنية العربية في المطرد من هذه الاستعمالات مجازية.
على أنه ماء يعتريه ما يعتري الإنسان، في حال مخصوصة، فيتردد ويجيء ويذهب ولا يدري كيف يجري فيتجمع في أديم الخدين. وهذا ونحوه يرسم صورا للماء رجراجة مضطربة، فهو في بعضها يسيل ويتفرق، أو يدور في باطن العين بدون أن يجري، وهو في بعضها الآخر ينضم ويتألف حتى ليخيل إلينا أنه متحرك وهو ساكن على نحو ما قالوا في الخط والحرف، أو ساكن وهو متحرك. وربما لا تفسير لذلك سوى الماء نفسه، فهو لا يحمل في ذاته لونا ولا شكلا؛ ولذا تنعكس فيه صور شتى؛ ولو كان له لون وشكل لما أمكن أن يعكس أي صورة.
أما النافورة الملونة التي كانت قلب القيروان النابض بالحياة؛ فقد اندثرت، وصارت المدينة مثل كائن من خلية واحدة، بدون قلب أو رئة أو كبد أو معِدة أو رأس. وأما حاجب العيون التي نشأت بها ودرجت، وقد نضبت عيونها أو تكاد، فيكفي ما قلته فيها:
كلما قلتُ أوْغَرتْني ظنوني // كنتَ يا حاجبَ العيونِ عيوني
المصدر: القدس العربي