ربما تكون دراسة الأنساب التي سنفصّلها في هذا التقرير، واحدة من أكثر الدراسات حول هذا الموضوع إثارة؛ وذلك لاعتماد الباحثين الذين أجروها على موقع إلكتروني للأنساب، زوّده أناس عاديون بمعلومات عن عائلاتهم.
بعد أن درس الباحثون في جامعة كولومبيا الأميركية المعلومات الموجودة على الموقع، كانت النتيجة "كشف أكبر شجرة عائلية، تمتد لتتضمن 11 جيلاً، تفسر كيف تمدد الغربيون في العالم على مدار الـ500 سنة الماضية"، حسب تقرير نشرته صحيفة The Daily Mail البريطانية.
الدراسة اعتمدت على معلومات 86 مليون تعريف "بروفايل" على موقع Geni.com، استطاعوا من خلالها تجميع صورة يمكن أن تكون مفهومة عن الهجرة والزواج ومتوسط الأعمار، وتمكَّنوا من الكشف عن "أسرةٍ" مُكوَّنة من 13 مليون شخص، غالبيتهم من أوروبا وأميركا الشمالية.
خلصوا إلى الآتي:
التغيرات الثقافية، وليس تطور المواصلات والتنقل، هي التي تحكمت في إنهاء زواج الأقارب.
النساء هاجرن أكثر من الرجال خلال القرون الـ3 الماضية.
الدراسة وجدت أن الجينات الجيدة هي التي أطالت متوسط الأعمار إلى 5 سنوات زيادة عن المعدل
ومن خلال النظر إلى بياناتهم الجينية، تمكَّن العلماء من خلق تصوُّر لهجراتهم وحيواتهم، وكشفوا بالضبط عن الوقت الذي توقَّفوا فيه عن الزواج من أقاربهم.
وكان يُعتقد منذُ فترةٍ طويلة، أنَّ الناس في الغرب توقَّفوا عن الزواج من أقاربهم في القرن الـ19، عندما سمح لهم تحسُّن وسائل النقل بالسفر مسافات أطول.
ومع ذلك، تُشير البيانات الجينية إلى استمرار تزاوج الأقارب مدة 50 عاماً بعد هذه الفترة.
ويختفي هذا الاتجاه في عام 1875 تقريباً، ويعتقد العلماء أنَّ هذا يرجع إلى حدٍّ كبير إلى التأثيرات الثقافية التي جعلت زواج الأقارب، من الناحية الاجتماعية، غير مقبول في ذلك الوقت.
ويقول بيتر فيسشر، عالم الوراثة الكمي بجامعة كوينزلاند الأسترالية والذي تفحص نتيجة الدراسة "إنَّ الأنساب التي أعيد بناؤها، تُظهِر أنَّنا جميعنا لدينا صلة قرابة بعضنا ببعض".
وأضاف: "هذه الحقيقة معروفة من المبادئ الأساسية لتاريخ السكان، لكنَّ ما حقَّقَه مُؤلفو الدراسة لا يزال مُثيراً للإعجاب للغاية".
ومن أجل إتمام بناء شجرة العائلة، حمَّلَ الباحثون 86 مليون ملف شخصي عام من موقع "Geni.com"، وهو موقع مُشترك للأنساب، تعود ملكيته لشركة "MyHeritage".
وبعد تحميل هذه المعلومات الخام، أجرى الخبراء مسحاً عليها؛ للتأكُّد من أنَّها لم تتضمَّن نتائج مستحيلة بيولوجياً، مثل أشخاص لديهم 3 آباء أو أمهات.
وسمح لهم هذا باستخدام اللوغاريتمات لتحليل المعلومات؛ مما أدى إلى الكشف عن أنماط واتجاهات كانت خفية سابقاً.
ومن البيانات التي جرى مسحها، والتي ركَّزَت بشكلٍ أساسي على الناس الذين نشأوا بأوروبا وأميركا الشمالية، بدأت الملفات الشخصية المتصلة تتجمَّع في شجرةٍ ضخمة واحدة مُكوَّنة من 13 مليون شخص.
وكان نحو 85٪ من الناس في هذه الشجرة من العالم الغربي.
مسح الملفات الشخصية لكشف الأشجار العائلة المشتركة
pic
استخدم الحاسوب في إنتاج هذه الصورة المبنية على المعلومات الواردة عن الـ 86 مليون مشارك على موقع الأنساب فكشفت عن 70 الف شخص يرتبطون بالقرابة من خلال النسب
وقالت الباحثة الرئيسية في الدراسة جوانا كابلانيس، من معهد أبحاث ويلكوم سانجر بإنكلترا: "يمكن للمستخدمين إنشاء ملف شخصي، وتحميل الأشجار العائلية الخاصة بهم عليه، والأمر الذي يجعل موقع Geni فريداً من نوعه حقاً، هو أنَّه يقوم بمسح الملفات الشخصية بحثاً عن تشابهات ودمج تلك الأشجار إذا وجدوا شخصاً متقاطعاً بينها".
وتابع: "إذاً، في حال كان الشخص نفسه يظهر في أشجار مُتعدِّدة، فإنَّهم سيعرضون أن يقوموا بدمج تلك الأشجار".
اتجاه الزواج بين الأقارب استمر فترةً أطول مما هو مُعتقد
قاس الباحثون مكان الولادة بين الأزواج والزوجات ثم تعقبوهم مع مرور الوقت.
ووجدوا أنَّه قبل الثورة الصناعية، تزوَّج معظم الأميركيين شخصاً ما على بُعد ما لا يزيد على 6 أميال (أي نحو 10 كيلومترات) من المكان الذي وُلِدوا فيه، وعلى الأغلب قريب من الدرجة الرابعة، ثم بعد الثورة الصناعية، بدأ الناس في التحرُّك بعيداً .
ولكن، من الغريب أنَّ الباحثين وجدوا أنه في الفترة ما بين 1800 و1850، سافر الناس إلى أماكن أبعد من أي وقتٍ مضى؛ للعثور على زوج/زوجة، ما يقرب من 12 ميلاً (19 كيلومتراً) في المتوسط، لكنَّ احتمالية زواجهم بقريب رابع أو أقرب كانت مُرجَّحَة أكثر.
وقالت جوانا: "حتى عندما بدأ الناس في الابتعاد، ظلوا يتزوَّجون أشخاصاً تجمعهم بهم صلة قرابة وثيقة. كان هناك نحو 50 عاماً من التأخير".
وأضافت: "يبدو أن الاختلافات الثقافية هي التي غيَّرَت هذا السلوك المُعتاد".
وقال يانيف إيرليش، وهو عالم في علوم الكمبيوتر بجامعة كولومبيا الأميركية وكبير موظفي العلوم في شركة "MyHeritage"، وهي شركة اختبار الأنساب والحمض النووي التي تمتلك Geni.com: "أصبح العثور على حب حياتك أمراً صعباً".
وبحلول الخمسينيات، كان الناس يجدون أزواجهم على بُعد 60 ميلاً (أي نحو 96 كيلومتراً) من المكان الذي وُلدوا فيه.
الجينات تلعب دوراً أصغر في طول عُمْر الإنسان مما هو مُعتقد
وكان جانب آخر من جوانب الدراسة، هو معرفة ما إذا كان التعمير يعتمد -بشكلٍ أساسي- على جيناتنا أو اختيارات نمط حياتنا.
وفي محاولة لتفكيك دور الطبيعة والتنشئة، بنى الباحثون نموذجاً حاسوبياً وبرمجوه على مجموعة بيانات مكونة من 3 ملايين شخص تجمعهم صلة قرابة وُلدوا في الفترة من 1600 إلى 1910 والذين تخطَّوا سن الثلاثين.
واستبعدوا التوائم، والأفراد الذين ماتوا في الحرب الأهلية الأميركية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، أو في كارثة طبيعية (في تخمين ما إذا كان أقرباء، قد توفوا في غضون 10 أيام، من بعضهم البعض).
وقارنوا عمر كل فرد مع أعمار أقاربهم. ووجد الباحثون أن الجينات الوراثية تلعب دوراً أصغر في طول العمر مما هو مُعتقد.
ووفقاً للبيانات، أوضحت الجينات أنَّ ما يقرب من 16% من الفروق في الأعمار بين الناس، على المستوى المنخفض من التقديرات السابقة التي تراوحت بين نحو 15% و30%.
ويقول الدكتور إيرليش: "تشير النتائج إلى أنَّ جينات التعمير الجيدة يمكن أن تمد حياة شخصٍ ما بمتوسط يصل إلى 5 سنوات".
وأضاف: "هذا لا يُعد كثيراً".
وقد أظهرت دراسات سابقة أنَّ التدخين يأخذ 10 سنوات من حياتك. وهذا يعني أنَّ بعض الاختيارات في الحياة يمكن أن تُكون مهمة أكثر بكثير من الجينات الموروثة.
وبشكلٍ ملحوظ، تُظهِر الدراسة أيضاً أنَّ الجينات التي تؤثِّر على التعمير، تعمل بشكل مستقل بدلاً من تفاعل بعضها مع بعض، وهي ظاهرة تُعرف باسم "Epistasis" أو "توقُّف الإفراز" (أحد أنواع التفاعلات الوراثية).
وقد استخدم بعض العلماء "توقُّف الإفراز" لشرح سبب فشل الدراسات الجينية، التي أُجريت على نطاق واسع، حتى الآن، في العثور على الجينات التي تقوم بترميز الطباع المُعقَّدة مثل الذكاء أو طول العمر.
وإذا كانت بعض المتغيرات الجينية تعمل معاً للتأثير على التعمير، كان الباحثون سيلاحظون ترابطاً أكبر بين العمر المتوقع بين الأفراد ذوي صلة القرابة الوثيقة الذين يتشاركون في المزيد من الحمض النووي، ومن ثم المزيد من التفاعلات الوراثية.
ومع ذلك، وجدوا صلة خطية بين طول العمر والقرابة المُتعلقة بالجينات، مُستبعدين ظاهرة توقف الإفراز "epistasis" التي كانت مُنتشرة على نطاق واسع.
كيف تأكَّدوا من صحة بياناتهم؟
من أجل التحقُّق من أنَّ مجموعة البيانات كانت مُمثِّلة لسكان الولايات المتحدة بشكلٍ عام، أعاد الباحثون فحص وتدقيق ملفات شخصية من مجموعة فرعية من ولاية فيرمونت الأميركية على موقع Geni.com في مُقابل سجل وفيات الولاية.
وقالت جوانا: "هناك تحيز جغرافي؛ لأنَّ معظم مستخدمينا يأتون من أوروبا أو الولايات المتحدة؛ لذلك ليس لدينا رؤية عالمية".
واستدركت: "ومع ذلك، حتى نتمكَّن من اختبار هذا التحيُّز الاجتماعي والاقتصادي، قمنا بتجميع شهادات الوفاة من قسم الصحة بولاية فيرمونت ومطابقتها مع البيانات الموجودة في الشجرة".
وحصل الباحثون أيضاً على كل شهادة وفاة صدرت في ولاية فيرمونت، والتي لديها سياسة مفتوحة بشأن شهادات الوفاة، من عام 1985 إلى عام 2000، يصل مجموعها إلى نحو 80 ألف سجل.
وقال إيرليش: "من خلال العمل الشاق لكثير من المُتخصِّصين في الأنساب والذين يسيطر عليهم الفضول حول تاريخ عائلاتهم، جمَّعنا معلوماتٍ لشجرةِ عائلةٍ هائلة، وفجأة تمكَّنا من التوصل إلى شيء فريد من نوعه".
وقال إيرليش: "نأمل أن تكون هذه البيانات مُفيدة للعلماء الذين يُجرون أبحاثاً في مجموعة من المواضيع الأخرى".
وجميع البيانات التي قام الباحثون بتحميلها، مُتاحة لعامة الناس، وسيكون باستطاعتهم تحميل معلوماتهم على الشجرة والإضافة إلى هذه الثروة من المعلومات.
وقالت ميليندا ميلز، وهي باحثةٌ في علم السكان بجامعة أكسفورد البريطانية والتي لم تُشارك في الدراسة: "إنَّها لحظةٌ مثيرة لعلم المواطن، حيث إنَّه يوضح كيف يمكن لملايين من الناس العاديين المُولعين بالأنساب أن يُحدِثوا فرقاً في العلم".
نقلا عن هاف بوست عربي