بقلم: أشرف آسيا
بعض الأفلام تسرق البصر وتستحوذ على الذهن وتتربع في الذاكرة، ما تجعلك مُنعزلاً عن حولك أثناء مشاهدتها، وهو ما يدفع بقوةٍ لا إرادية للكتابة عنها ونقل رسالتها لمن لم يعلم بأمرها المُثير،لعل الكتابة تُفرغ الثقل الذي سببه الفيلم على عقل ووجدان مشاهده.
"صور بلا ظل"..إحدى هذه الأفلام من إنتاج شبكة الجزيرة مُدتهُ 52 دقيقة، يروي قصة مصور صحفي ياباني روئيتشي هيروكاوا، وهو بطل الفيلم الذي وصل إلى كيبوتس دالية اليهودي في مرتفعات الجليل عام 1967.
عندما وقعت الحرب في العام نفسه تشكلت لديه الكثير من الأسئلة، وخصوصاً قصة اكوام الحجارة المحاذية للكيبوتس التي تحيط بها اشجار الصبّار، كلما سأل هيروكاوا اليهود عن هذه الحجارة القديمة، قالوا له أنها لا شيء، وبعد البحث المكثف كشف هيروكاوا سر كومة الحجارة!. فكانت هذه اللحظة نقطة تحول في حياته، لذلك كرّس حياته من أجل القضية الفلسطينية فيما بعد.
يثبت المصور هيروكاوا في مطلع الفيلم أن إسرائيل التي تقودها الصهيونية تغتال الوجود الإنساني في خلق مُجتمعٍ يسود بين أفراده العدل والمساواة، وهذا يظهر من خلال إعترافه بأنه فَشِل في خلق مجتمع متساوِ عندما سأل صديقهُ اليهودي من مجموعة "ماتسبين" المُناهضة للإحتلال عن ذلك، وأجابهُ الآخر " حاول الكثير خلق مُجتمع مُتساوٍ لكن الحكومة تتدخل وتُفشل الأمر".
ويُضيف " الكيبوتس هو المُجتمع الوحيد الذي لا يفشل".
و"الكيبوتس" هو تجمع سكني تعاوني يضم جماعة من المزارعين أو العمال اليهود الذين يعيشـون ويعملون سـوياً، ويُعتبر من أهم المؤسسات التي تستند عليها الحركة الصهيونية في فلسطين،
لكن العنوان المُلفت للانتباه يطرح سؤالاً: ماذا يعني صور بلا ظل؟ ولماذا اختار المُخرج هذا العنوان؟.
خريطة وصور..البداية!
يسرد هيروكاوا لنا أنه زار القدس يعد شهر واحد من حرب عام 1967، وشاهد كيفية التدمير للقرى العربية لبناء مدينة يهودية، ويذكر منع جنود الإحتلال التصوير، لكنه سراً صور عدة صور، وعاد لطوكيو بعد 3 سنوات وعرضها للعالم.
اعتبر هيروكاوا أن رحلة البحث عن الحقيقة أكثر قيمة من امتلاكها، للكشف عن تاريخ الأنقاض المتناثرة ومعرفة ماهية القرى التي كانت، لأن الخوف المُجزع يكمن في نسيان مأساة المواطنين المُهجرين في القرى المُدمرة.
والمثير للدهشة أنه استطاع الحصول على خريطة قديمة لفلسطين، من صديقه الهيودي قبل نشوء ما تُسمى إسرائيل على حد تعبيره، والتي اشتملت على كل القرى التي تم تدميرها، وكل قرية اختفت مكتوب تحتها بالعبرية "حروس" بمعنى دُمرت وهنا يفند المصور الياباني أكذوبة الصهاينة "أرضٍ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، ويُبرهن بأن الصهوينية هي مشروع تدمير للآخر وليس التسامح وحسن الجوار كما يصورها ساستُها.
ومن ناحية أخرى التقى مع أصدقائه من عائلة يهودية مناصرةً للعرب، والمُدهش بالموضوع هو عرضهم لعدة صور تجمعهما في مظاهرة عام 1977 في سخنين وعرابة البطوف والناصرة، لإحياء ذكرى يوم الأرض، رافعين شعارات ضد الحكومة الإسرائيلية وسايستها في تهويد أراضي العرب، وتعرض على ملئ الشاشة صورة للمناضل والأديب توفيق زياد الذي أنهك عُمره بالقلم والفكر في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية داخل الخط الأخضر.
لكل منها حكاية
يقول هيراوكا"بدأت ألتقط الصور لأن اسماء القرى اختفت من الخريطة، لذلك أخذت صوراً للقرى وبدأت البحث عن اللاجئين، لقد صورت 250 قرية! إنه هذا عالم صعب لي ولكم"، وذكر الفيلم أربع قرى لكل منها حكاية.
من قرية داليا الروحه التي تحولت إلى كيبوتس يهودي بغطرسة السلاح والعنف، إلى قرية لفتا التي تُعتبر المدخل الشمالي للقدس، التي اشتهرت بالينابيع العذبة التي يشرب منها الناس، وهنا يمشي هيروكاوا بين الأنقاض وتظهر حرفية التصوير في التركيز على الحجارة القديمة بزاوية مؤثرة تلتهم عين المُشاهد، التي توحي بقدمها وأصالتها، بالرغم مما كُتب عليها بالعبري "الموت للعرب" ، وتصميم بلدية الإحتلال خطة لتحويل المنطقة لحديقة عامة.
"تفتل" هيروكاوا في قرية كفر برعم ذات الطابع المسيحي، والذي لاحظ فيها اعتداء مجهول الهوية على 10 مقابر والكنيسة وكسر الصليب، ويُبرز المُخرج ذكاءه في عدم البوح بإسم الفاعل، وجعل المشاهد يستدل على أن الصهيونية بحكومتها ومستوطنيها لا تعرف حدود لوحشيتها.
"لا بُد للحق أن يعود لصاحبه".. هذه قرية إقرت شمالي فلسطين، التي بُني على حطامها أربع مستعمرات يهودية ولم يتبقى منها إلى كنيسة الروم الكاثوليك، وما زال أهلها المُهجرون يطالبون بالعودة.
بينما الحال مُختلف في قرية بلعين قضاء رام الله، حيث تعسكر المستوطنة بجانبها ويزاحمها جدار الفصل العنصري الذي يكبرُ ويلتهم أراضٍ أخرى، وقال هيروكاوا "إنه أمر صعب وأنا خائف من الصهيونية والاحتلال، فهم يريدون صنع دولتهم بأي شكل، وهم يطمعون بالمزيد من القرى، هذه الصهيونية".
ولا بُد الإشارة إلى عنوان الفيلم "صور بلا ظل" المُلفت للإنتباه، وهو فعلاً يعكس صور بيوت القرى التي هُدمت ولم يبقى لها ظل يعكس شكلها الحقيقي،وبقي منها حجارة متناثرة وربما لاشيء!
بشاعة الجريمة
"لم أستطيع إلتقاط الصور إلا لجثث الموتى".. هكذا عبر هيروكاوا عن مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا، بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان، تلك الجريمة البشعة الممزوجة بالألم والوجع والضياع، هي التراجيديا سوداوية الحُزن والفقدان.
واستنتج أن الهدف هو قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين اللاجئين من منذ 30 عاماً، والذين يحلمون بالعودة لبيوتهم وديارهم، وليس التخلص من منظمة التحرير الفلسطينية.
ويربط ما حصل بالغارات الأمريكية على أفغانستان والعراق، حيث ذكر الإعلام في العالم اجمع بأن أمريكا تحارب ألإرهاب وقاموا بتصوير مشاهد الغارات فقط، وكل الصحفيين ذهبوا على مناطق القصف ولم يكتبوا حقيقة الضحية ألا وهم النساء والاطفال.
لذلك هو يعمل مُستقل وعندما عاد إلى اليابان أسس مجلتهُ دايز جابان لنشر الحقيقة، وتم عرض صورهُ في المجلات والجرائد، وقدم أدلة لجلسات السماع الدولية في النرويج، وفي جنيف وتُبني فيلمهُ الذي صنعه كدليل على الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
حكاية لاجئة
" وبالرغم من كل الصدمات إلا أنها امرأة قوية".. بهذه الكلمات لخص هيروكاوا تعبيرهُ عن كفاح عفيفي لاجئة فلسطينية وإحدى ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، التي التقى بها بعد الجريمة البشعة وروت لهُ ما حدث، حيث توفي والدها إثر شظية قذيفة اصابته في معدته، وشلل أمها من الحركة نتيجة ضربة بندقية جندي.
عفيفي شاركت بعملية فدائية مع 6 شبان عام 1988 على بوابة فاطمة الواقعة على الحدود ما بين إسرائيل ولبنان، وأُسرِت في سجن خيام مدة 6 سنوات الغير مُعترف به دولياً، وتم تعذيبها بصعقات كهربائية وإطفاء السجائر بجسدها وإقتلاع أظافرها، حتى أُفرجَ عنها عام 1994.
يظهر في الفيلم هيروكاوا وعفيفي يتجولان بين حطام سجن الخيام المُطل على فلسطين المُحتلة، الذي دُمر في حرب لبنان الثانية، وتستذكر عفيفي كل ألأيام شديدة المرارة في غرف السجن،وكيف كانت الحُرية وقته
ا.
وحكاية عفيفي تغرس في عقولنا أن ثورة المرأة هي جُزء من الثورة التحررية في فلسطين، وأن بقاء الانثى منعزلة وراء سياج التعصب العائلي والسلطة الإجتماعية، سيُضعف بنية النضال الوطني لا محاله.
بآخر الفيلم تطل عينا صور المواجهات مع الاحتلال في قرية بلعين، وجملة المصور الصحفي وينطق هيروكاوا بأنه إن لم تحل مشاكل المخيم فإنه سينفجر من جديد، والحل للفلسطينيين هو العودة لفلسطين، والفقراء هو الهروب من حالة الفقر.
المصور الصحفي 71 عاماً يختتم الفيلم بجملة " عادة ما يقال أنه يجب الخروج من معنى الهوية الصحفية، لكن هويتي كصحفي تتضمن معنى آخر هو إنسان".
ويُذكر أن روئيتشي هيروكاوا عندما عاد إلى اليابان عمل مديراً لمجلة دايز جابان، لنشر القضية الفلسطينية وقصص الضحايا الإنسانية، وأسس اللجنة اليابانية لمساعدة أطفال فلسطين، وهي الآن تتكفل ب246 طفل من ابناء مخيمات لبنان.