الرئيسية / ثقافة وأدب
لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا
تاريخ النشر: الأربعاء 11/04/2018 12:29
لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا
لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا

كتب بسام الاغبر

عجيبٌ إنسانُ هذا العصر، يجمع الضدين وهو لا يدري، آفاقه متسعة، وطموح أشرعته لا تُكَسِّرها أمواجُ البحار العاتية، نَحَتَ الجبالَ أنفاقاً، واتّخذَ البحارَ سَرَبا، ولكنَّ ظلامَ هذا الإنسان أحلك من الغيهب، وأفتك من الأسود الضارية، لم يرأف ببسمة طفل، ولم تعظه تجاعيدُ عجوز مرت عليها السنون، يأكلُ شرهاً، فلا يتركُ فتاتاً، ويأخذ ما تقع عليه يده، وخائنة عينيه.
ربما يقول أحدنا، لقد عنَّفت الإنسان، وجاوزت فيه الذّم، ربما، ولكنَّ المصائبَ تقع تترى، وترتد من وقوعها اهتزازات عدة، فمجتمعنا العربي، منذ قرن من الزمن والدم يسيل فيها رخيصاً، وعبثت أيادي الجريمة في أمنه وأمانه، وأصبح الإنسانُ غريباً في وطنه، لا يلوي على شيء سوى نسمة عطر من عبق الماضي، حين كان الرجلُ ينام، وباب بيته مشرع على مصراعيه، لا يخاف سرقةً، أو قاطعَ رحم. يخرجُ إلى رزقه، وهو على يقين بأنَّ المجتمعَ سيقف إلى جانبه، وإن طال غايبه، فهذا المجتمعُ سيحفظ له عائلته، ويمدها بما تحتاج إليه، من مأكل وملبس، وتربيةً للصغار، وعطفاً على الكبار.
لقد زرع هذا المجتمع، بتوجيهات إيمانية خالصة، وعفوية أخلاقية صادقة، أداء الأمانة، وحُسنَ تأديتها، وكادت أن تصبح مظهراً كونياً مثل شروق الشمس، ونزول الغيث، فكل فردٍّ من أفراد المجتمع يحثُّ أخاه أو أباه، على اتّباع صراطها المستقيم، وباتت الزوج تسألُ زوجها عن أصل ماله، وكيفية تحصيله، حتى لا ينبت جسدها أو جسد أطفالها من مال سُحت، تكون النار، لاحقاً، أولى به، ونهرت الفتاةُ أمها عندما أرادت أن تغشَّ اللبن في عهد عُمر:
قالــت بنيّـة قومـي فامـذقي اللبنــا
الماء سوف يزيد الوزن والثمنا

قالت لها البـنت : يا أمّــاه معـذرةً
لقـد نهى عـُمـر أن نخـلط اللّبــنا

قـالت لها أمّـها : أنّى يرى عـمـر
صنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا

قـالت لهـا ابنتها : لا تفعــلي أبـداً
الـلّه يعــلم منّـــا السـرَّ والعـلـنـا

إن لم يكن عمر الفاروق يبصرنا
فـإنّ ربّ أبي حفـص هنـا معنـا

وقتئذٍ فتَحتْ تلك الأمانةُ قلوب البشر، وأبوابَ دولٍ، ونشرت فيها الدين القويم، وعلت قممَ جبالها أصواتُ التوحيد، دون قتال أو ترهيب.
وحين ضاعت الأمانة من نفوس العباد، أضحى الإنسانُ عبداً لشهواته، مُحللاً الحرام، ومبرراً اللجوء إلى ما لا يحقُّ له، فالعامل يُماطلُ في العمل ولا يُتقنه، والموظف يُبرر عدم مبالاته فيما بين يديه من مستندات، ينتظر أصحابها سرعةَ انتهائها، وأصبح المدير يبدد ما يشاء من أموال بحجج واهية، وشرَّعَ الوزيرُ وضعَ يده على رقاب العباد، وأراضي البلاد، كلهم، يعملون لخدمة معاليه.
لو أنَّ موظفاً أتلف في شهر واحدٍ أوراقاً وأقلاماً تعديل قيمتها 3دولار، أو أخذ منها شيئاً لأولاده، في عام واحد يأخذ هذا الموظف، 36دولار، كم موظفاً حكومياً لدى أصغر البلاد؟ لو قلنا إنَّ مائة ألف موظف، قام نصفهم بهذا التسيب، فيصبح مجموع المال الضائع دون وجه حق مليون وثمان مائة ألف دولار، في عام واحد، وانظر لو كان عدد الموظفين أكبر. أو كان المبلغ الشهري المتلف أكثر. كم سيصبح المال التالف السنوي الضائع؟ وما المشاريع التي يمكن أن تبنيها هذه الدولة أو تلك المؤسسة؟ سؤال ينتظر الإجابة، ويقظة الضمير.
وأقم ذلك الحساب على وقتٍ يُضيعه معلم مدرسي، أو محاضر جامعي، أو رجل قضاء، وانظر إلى الوقت المهدر دونما فائدة.
وقِس إن شئتَ تلك المعادلة الحسابية البسيطة على أمور حياتنا اليومية، في شرائنا، في ملابسنا، في معاملاتنا، وستكون النتيجة صادمة، والفجيعة التي ستحملها الأجيال هائلة.
وتذكرُ كتب التاريخ لنا، أنَّ أُخْتَ بِشْرٍ الْحَافِيِّ جاءت إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَتْ: إنَّا نَغْزِلُ عَلَى سُطُوحِنَا بِشُعْلَةِ الْمَلِكِ، هَلْ يَجُوزُ لَنَا الْغَزْلُ فِي شُعَاعِهَا، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا الْمَشَاعِلُ الظَّاهِرِيَّةُ؟
فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ عَافَاك اللَّهُ؟
قَالَتْ: أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ.
فَبَكَى أَحْمَدُ
وَقَالَ: مِنْ بَيْتِكُمْ يَخْرُجُ الْوَرَعُ الصَّادِقُ، لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا.
 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017