محمد جابر
قبل مطلع التسعينيات، كان تعامل السينما والتلفزيون المصري خافتاً مع الصعيد الجنوب،. يمكن أن نذكر مثلاً فيلمي "البوسطجي" (1968) أو "شيء من الخوف" (1969) كأمثلة، وكلاهما مقتبس عن عمل أدبي ومن إخراج صانع أفلام بقيمة حسين كمال، لذلك كانت الأعمال تتسم بشيءٍ من الواقعية والأصالة. ولكن ما حدث في مطلع التسعينيات، كان بزوغ نجم السيناريست محمد صفاء عامر، الذي خلق صعيداً آخر، مليء بالصراعات والتفاصيل الجاذبة، ولكنه لا يمت للواقع بصلة.
صعيد محمد صفاء عامر بدأ مع نجاح مسلسل "ذئاب الجبل" (1993)، حيث قدم فيه عالماً شبة أسطوري، بشخصيات من المطاردين في الجبل والقتلة والهاربين من القانون. ومع النجاح (النقدي والجماهيري حينها) استمر المؤلف نفسه في المضي قدماً بهذا العالم، ليقدم "حلم الجنوبي" (1997) عن تجارة الآثار والاقتتال عليها، ثم "الضوء الشارد" (1998) عن صراع العائلات داخل الصعيد على حكم الأمور، ولاحقاً قدم أيضاً مسلسلات "الفرار من الحب" (2000) و"حدائق الشيطان" (2006)، عن الرجل القاسي الذي يقع في الحب ويبدأ في التغير.
كل تلك المسلسلات نجحت مع الجمهور، بل وبعضها صار من الكلاسيكيات. ولكن أهم –وربما أسوأ- ما ساهمت فيه هو خلق صورة متخيلة عن الصعيد صار كل صناع الدراما يحاكونها باعتبارها الحقيقة.
هناك عدة أسباب لتحويل صعيد مصر إلى عالم أسطوري إلى هذا الحد؛ يسوده اللاقانون على الأغلب، وتتجاذب أطرافه نزعات الثأر والقتل وتجارة الآثار أو المخدرات. ربما لأن عوالم المدن الكبرى في مصر، مثل القاهرة والإسكندرية، متوقعين بشدة، وقريبين كذلك؛ لن يصدق المشاهدون وجود اقتتال مستمر وطويل بين عائلتين كبرتين مثلاً، لأن الشريحة الأعرض من الجمهور تعلم أن هذا لا يحدث في العالم الذي يعيشونه بشكل يومي.
ولكن حين تذهب إلى عالم بعيد، على المستوى الثقافي والجغرافي، مثل الصعيد، فإن قابلية تصديق العالم الخيالي هذا تصبح أعلى، ومثلما تقدم الأعمال الأميركية عوالمها من العصابات والمافيا والقوانين الخاصة، فإن الجنوب هنا هو المكان الأنسب لصناع الدراما من أجل خلق عالم من الصراع والعنف.
في رمضان الحالي، تعرض ثلاثة مسلسلات تدور أحداثها في الصعيد. ومع تفاوت مستواها الفني، فإن كلها محكومة بالتصورات القديمة عن هذا المكان. أولها الجزء الخامس من "سلسال الدم"، الذي قررت شبكة "إم بي سي" عرضه في هذا الشهر، عمل ألفه مجدي صابر، وتوالت أجزاءه منذ عام 2013، وكما يبدو من اسمه فإنه يحاكي فكرة الثأر والصراع الذي لا يتوقف عبر أجيال، محاولاً تطعيم الحكاية بأحداث حقيقية مرتبطة بثورة يناير ووصول الإخوان المسلمين إلى الحكم.
المسلسل الثاني، وهو الأنجح من الناحية الجماهيرية، هو "نسر الصعيد"، من بطولة محمد رمضان. وللمرة الأولى يكون البطل الصعيدي هو ضابط شرطة، وليس شخصاً في عالمٍ بلا قانون كأغلب المسلسلات الجنوبية السابقة، ولكن خلاف ذلك فإن كل شيء آخر موجود هنا؛ الرجل خارق القوى الذي يتاجر في السلاح والآثار والمخدرات ويتحكم في البلدة، وصراع الثأر الشخصي بينه وبين البطل، شكل تكوين العائلات، والديكورات الفخمة التي يعيش داخلها أطراف الصراع، بل يذهب المسلسل لأبعد من ذلك فيعرض مشاهد لجلد بعض الفقراء كإجراء عقابي، وهو ما أثار استياء العديد من المثقفين الجنوبيين بسبب عدم حقيقية ما يستعرضه
ما المسلسل الثالث فهو "طايع"، وهو عمل طموح من الناحية الفنية، يكتبه محمد دياب (مؤلف فيلم "الجزيرة" الذي دارت أحداثه في الصعيد)، ومعه محمد وشيرين دياب، ويخرج المسلسل عمرو سلامة، القادم من خلفية سينمائية.
يتميز المسلسل بجوانب عديدة على مستوى الصورة والتنفيذ، ولكن من ناحية السيناريو يعاني تماماً من كل "كليشيهات" الصعيد المتوارثة. قصته كلها تدور حول "الثأر" (الذي يتحدث الجنوبيين أنفسهم عن أنه لم يعد موجوداً أبداً بتلك الصورة التي تصورها الدراما)، ويصنع كتاب "طايع" دوائر مقعدة تدور كلها حول فكرة "الثأر"، و-مرة أخرى- هناك الرجل القاسي الهارب من العدالة الذي يتحكم في القرية الصعيدية كلها، وتجارة الآثار التي تتصارع عليها العائلات، وحتى طبيعة قصص الحب الموءودة تحت وطأة هذا الصراع، كل شيء من تفاصيل العالم في المسلسل يعيد تقديم ومحاكاة الصورة المتخيلة/"الكليشيه" عن هذا المكان، من دون احتكاك أو تفاعل حقيقي يتجاوز "الكليشيه" الذي أسسه صفاء عامر قبل 3 عقود.
العربي الجديد