بقلم: أشرف آسيا
لعل رحلة الإبحار في أعماق أمهات كتب التاريخ ونوابغ الفلسفة وضروب الروايات ونفض الغبار عن غلافها، والغوص في تفاصيلها مقترنة بفعل تخيل الأشياء والأحداث والوقائع والشخصيات بتضاريس قوامها ووجوهها.
ولا أخفي سراً إنني خلال مشواري في مرافقة الكتب كان الشرود بالأحداث بعد قراءتها ومحاولة تصورها في ذهني ممتع حقاً، ولا شك أن رسم صور الشخصيات كما فصلها الكاتب من البداية حتى النهاية مثير للاهتمام.
ولعله منذ ولادة جهاز التلفاز كوسيلة متوجة على الإعلام الجماهيري وانتشارها بشكلٍ بطيء على مستوى العالم حتى أصبحت تمتلئ كل البيوت بأكثر جهاز واحد، بدأت تقدم المعلومة بالقالب المرئي والشخصيات محددة مثل وجبة جاهزة تقدم لكافة أبناء المعمورة الأرضية بنمطٍ واحد وصورةٍ واحدة وحدثٍ واحد، وهنا لا حاجةَ للمشاهد بالتفكير وتمرين عقله على تصور قضية ما.
ومع انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي وشيوع الهواتف الذكية بنسبة تفوق ال90%، واعتمادها الرئيسي على الجانب المرئي والمعروفة بعلاقتها العكسية مع المقروء، فإنه لا بد من التأثير بشكل مباشر على عملية التفكير؛ لأن تعلم القراءة هو تعلم التفكير، والتفكير اسلوب تمرين العقل وتنشيط وظائفه نحو التخيل وتغيير الواقع.
وفي ذات السياق، أذكرُ في مقدمة رواية "الحب في زمن الكوليرا" للروائي الكولومبي غابرييل ماركيز، كُتب أن ماركييز رفض العروض لتحويل رواياته إلى أفلام سينمائية، فهو يريد أن تبقى مخيلة القارئ حرة غير مؤطرة، وقال ذات مرة: " أنا أفضل أن يتخيل قارئ كتابي الشخصيات كما يحلو له، وأن يرسم ملامحها مثلما يريد، أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة فإن الشخصيات ستصبح ذات أشكال محددة، هي أشكال الممثلين وليست تلك الشخصيات التي يمكن أن يتخيلها المرء أثناء القراءة".
وهنا يشارك رأي ماركييز بمقولة الكاتب الأرجنتيني بورخس " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال"، وحسب الدراسات فإن الخيال من أهم قدرات العقل الباطن ذو قدرات غير محدودة، فقدراته فاقت كل التصوّرات والتوقعات على مرّ الزمان.
وكانت قدرات العقل الباطن اللامحدودة محط أنظار العلماء والمفكرين وروّاد التنمية البشرية، فمن قدراته التي يمكن للإنسان استغلالها لفرض واقعٍ جميل هو إطلاق العنان لخياله، وتنبع قوة الخيال من عدم معرفة العقل الباطن الفرق بين الواقع المعاش والخيال غير الحقيقي.
وحسب تعبير الإعلامي الفلسطيني عارف حجاوي عن تفوق عقلية الانسان، كتب في إحدى مدوناته: " يتميز الإنسان عن الحيوان بأنه يتخيل.. بأنه غير مرئي".
من تجربتي الشخصية على مدار سنوات، أعتقد أن الخيال سجين العالم المرئي بالوقت المعاصر بشكل خطير، نتيجة هبوط معدلات القراءة عموماً بين كل الشعوب، وخصوصاً في المجتمع العربي المترامي الأطراف تحت وطأة الاستبداد الوحشي والجهل المُزري.