كتاب "تاريخٌ اجتماعي وثقافي للسياسي في الجزائر والمغرب العربي" تأليفٌ جماعي يضم بين دفَّتيْه 28 مقالاً، انتظمت في شكل تكريم، قُدّم إلى عُمر كارلييه، أحد أشهر علماء الاجتماع الجزائريين، الذي تخصّص في التأريخ الثقافي للجزائر المعاصرة خلال مسار جامعي ثري، ابتدأه في "مركز الأبحاث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية" بوهران، ثم في أروقة جامعة السوربون الباريسية.
أعِدَّ هذا العمل الأكاديمي بعناية الباحثان الشابَان: مُرجان كوريو ومحمد والدي، وأصدرته "منشورات السوربون" مؤخراً. وتشير استمرارية إصدار هذه النوعية من الكتب إلى أنّ التاريخ الاجتماعي والثقافي، في المغرب العربي والأمازيغي، ولاسيما مُكوّنه السياسي، لا يزال يلهم الباحثين ويحيِّرهم. ذلك أنَّ مظاهر تنظيم المجتمع وآليات إنتاج القيم في ثنايا الحياة اليومية لم تَبُح بعدُ بكل أسرارها.
ولذلك غالباً ما يتسلح الباحثون بسائر فروع العلوم الإنسانية، وخصوصاً علم الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا الثقافية، لدراسة ظواهره الخفية وربطها بأسس الجغرافيا وخصائص البشر في منطقة المغرب، بما تنطوي عليه من تنوّع طبيعي وإثني، غالباً ما يغيب عن عامة القراء.
استُهلَّ الكتاب بتوطئة معمّقة كتبها عمر كارلييه نفسه وعنوانها: "كيف تصبح مؤرخاً للجزائر: التعلم والاستكشاف والنقل.. ما بين ضفتيْ المتوسط". وتتالت بعدها المقالات ضمن أجزاء أربعة، متفاوتة في الطول، متنوّعة في المحاور: فخُصّص القسم اﻷول لتتبع حضور السياسي في المكان وأنماط حركته فيه مع استخدام الشعائر والعلامات، ونظامُ اللباس من أبرزها.
وتناول القسم الثاني التجاذبات التي هزت المغرب العربي، إبان القرنين التاسعَ عشرَ والعشرين، في شكل نقاشات حول مرجع الانتماء: هل هو الإمبراطورية العثمانية وهي التي شدّت رعاياها إلى الخلافة الدينية؟ أم الدولة الفرنسية وقد دعا مناصِروها المستَعمَرين إلى تبني قيم الجمهورية ونظامها العلماني؟ وقد تتبع الباحثون هذه النقاشات عبر تجلياتها وتنويعاتها في الفنون والصحافة.
وأما القسم الثالث فتطرَّق إلى التأريخ الاجتماعي والثقافي الذي يتعلق بحرب التحرير الجزائرية حصراً، حربٍ لا تزال أصداؤها تتردّد ولم تُستنفد مَسالكها، على كثرة السائرين فيها. وخُتم الكتاب بفصل رابعٍ عن تحوّلات الجزائر في حقبة ما بعد الاستقلال وتوجّهات الحاكمين والمحكومين في النظر إلى السياسي. وكان مسك الختام مقالٌ مشترك لعالِميْ الاجتماع فرنسوا بويون وكورين كوفان-فرنار اللذيْن توصّلا إلى استنباط نموذج نَظري paradigme، يُستخدم في الدراسات الأنثروبولوجية الخاصة ببلدان المغرب.
وكما هو بيّنٌ من هذا العرض الموضوعي، فالكتاب مجموعُ مقالات ذات أغراض متباينة ومحاور مختلفة. ولكنَّ الخيط الناظم الذي يربط بينها هو التركيز على المظاهر الجزئية من الحياة الاجتماعية ودراسة النشاط السياسي في دروبه العفوية، تفكيكاً لرموزه وتحليلاً لأدوات نفوذه، حسب قواعد مدرسة فرناند بروديل (1902-1985) أشهر المؤرّخين الفرنسيين خلال القرن العشرين، وأحد مؤسّسي "مدرسة الحوليّات" التي رأت النور في ثلاثينيات القرن الماضي.
كما تربط بين المقالات وُحدة المنهج والرؤية الإجرائية، إذ يشترك هؤلاء الباحثون الثمانية والعشرون، وجلهم من أصدقاء المؤرخ عمر كارلييه وزملائه، في العكوف على المدونة المهمشة، إذ تشمل أعمدة الصحافة المنسية والحكايات الشعبية والسرديات التلقائية، كما تغطي من الأمكنة فضاءات الممارسة التلقائية، كالحوانيت والمقابر والأحياء الشعبية والساحات العامة (...) من أجل كتابة تاريخ مختلف لكيفيات جمعنة Socialisation البُعد السياسي في بلدان المغرب العربي، مع تركيز خاص على الجزائر.
فقد تتبع هذا المجموع مظاهرَ الحس الوطني واستقصى تجلياته من خلال محادثات الناس في المقاهي والحمامات والمنازل والمساجد، ومن خلال ما أتاه القادة السياسيون من حركات وما اتبعوه من شعائر لبسط سلطتهم بين الأهالي. وهذه هي نفسها الموضوعات المحببة التي خاض غمارها كارلييه الذي أهديت له المقالات.
وهكذا، فليس الكتاب مجرّد تكريمِ مجاملةٍ له، بل هو عمل علمي، سعى إلى جمع كلمة الباحثين، من ضفتيْ المتوسط المتقابلتيْن ونَدَبهم إلى الإجابة عن الأسئلة التي تثيرها أحدث المباحث الاجتماعية.
ولا يخفى أن هذا النوع من الإنتاج البحثي هو ما تبقى لنا من وسائل المعرفة الموضوعية بالتحولات التي طاولت المجتمع في المدن والبوادي المغاربية طيلة القرنين الماضيين، في ظل الخطابات الإيديولوجية الطاغية، وهي للحقيقة حاجبة، إما تمجيداً أو تحقيراً. فهو يضيء جوانب من التفاعل السياسي بين السلطة والشعب، ضمن نسيج اجتماعي محكومٍ بسياق الاستعمار والبحث عن هوية جديدة تستوعب الحداثة ولا تقطع مع التراث العربي- الإسلامي.
وبهذا الاعتبار، تهدف هذه الدراسات إلى نزع الأسطرة عن الديناميات الاجتماعية، وإلى تفسيرها على ضوء قوانين موضوعية، تضبط إيقاع المجتمعات المغاربية وتحكم تطوّراتها. وتكمن مزية هذه الأبحاث، وقد امتزج فيها علم الاجتماع بالتاريخ، في صبغتها القطاعية المتخصصة: فهي تتعمق في درس ظواهر مستقلة، مثل تاريخ الطاقة في تونس في فترة ما بين 1894 و1954 للحبيب بلعيد أو تاريخ تمثال دوق أورليان، الذي نُصب في الجزائر العاصمة، سنة 1845 لجان جاسون.
وأما مزيته الثانية فتكمن في مفارقة التأريخ فيه لبطون الكتب الشهيرة وسطور المدونات العالِمة وأمهات النصوص، تنقيباً عن "حقيقة" المعيش، في آنيته وماديته، داخل الأماكن الهامشية والمهمشة، وتأثير العناصر الفرعية فيها وقد ملأت الوعي اليومي وأضفت عليه معنًى. ومن ذلك دراسة ديدييه غنيار التي خُصصت لسيمائية الملابس في مرحلة ما بين الحربين بالجزائر، ودراسة "عادات زيارة المقابر"، وهي من وضع أوغستان جومبيه.
وهكذا، فالكتاب عودٌ إلى الزوايا البِكر التي شكلت وعي الأهالي وحركت منهم المخيال من خلال الوسائل التي استخدمتها السلطات، المحلية والاستعمارية، إما ببراءة أو بسبق تخطيط من أجل ضمان امتيازاتها. وقد تجاوز بذلك محذوراً معرفياً كبيراً، وقعت فيه دراسات اجتماعية وإناسية سابقة، حين كانت أقل انتشاراً في منتصف القرن الماضي، حين عملت على التطبيق السطحي والآلي للنظريات التي صيغت بناءً على معاينة مجتمعات أدغال أفريقيا وأميركا.
أخيراً، يمكن أن نرى في هذه الدراسات تجاوزاً حاسماً للاستشراق التقليدي، الذي كان يعتمد بالخصوص على تحقيق النصوص، حيث تُوظّف العلوم الإنسانية وتطبّق أدواتها على مجتمعاتنا العربية، وهي اليوم بلا ريب بوابة ننفذ من خلالها لمعرفة التاريخ الوسيط والحديث وأثرهما في الراهن.
العربي الجديد