لفت جان كريستوف روفان انتباهي، لدى استقبالي تحت قبة الأكاديمية في الرابع عشر من يونيو 2012، إلى أن أول من شغل المقعد التاسع والعشرين، قضى غرقا وهو يسعى جاهدا لإنقاذ تلميذه، لقد فطن، لأنه يعرفني حق المعرفة، أن مصير الذين سبقوني يثير اهتمامي، فبادرني قائلا: أنت الذي تعشق الأسلاف، ها أنت ترث ثمانية عشر منهم”.
هكذا يتقصى الروائي اللبناني الفرنسي أمين معلوف في تذييل كتابه “مقعد على ضفاف السين.. أربعة قرون من تاريخ فرنسا” لحظة بزوغ فكرة الكتاب، الذي ترجمته إلى العربية نهلة بيضون، وصدر عن دار الفارابي.
وكان معلوف قد انتخب في شهر يونيو عام 2011 عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ليشغل مقعد سلفه المفكر كلود ليفي ستراوس، الذي رحل في عام 2009. ووفقاً لطقوس الأكاديمية، كان عليه أن يمتدح سلفه المباشر، في الخطاب الأول خلال الاستقبال الذي يقام بعد عام من الانتخاب، غير أن معلوف وهو يخطط لكتابة كلمته وجد قائمة الأسلاف تطول لتشمل ثماني عشرة شخصية سبقته إلى المقعد التاسع والعشرين، لذلك ما إن أنجز مهمته وتحدث في كلمته عن سلفه المباشر، حتى عاد وربما بإيحاء ضمني من جان كريستوف روفان، راوياً قصص الأسلاف كلهم. ومن خلالها يحكي تاريخا فرنسيا خاصا يمتد من عام 1634 حين استقبل المقعد التاسع والعشرين أول شاغليه، حتى 2009 حين خلا المقعد برحيل كلود ليفي شتراوس.
يحكي معلوف عن تمزقه وقت تأليف الكتاب بين رغبتين متناقضتين، فمن ناحية لا يجب أن ينطلق في تعامله مع أسلافه الثمانية عشر من منطلق “بر الوالدين”، فالجدير به أن يكون مؤرخا محايدا، ومن ناحية أخرى وجد نفسه مدفوعا إلى النظر إليهم بعين المودة، ”دون أن تساورني الرغبة في الدفاع عنهم بأي ثمن، وبالأخص المنبوذون منهم، وغير المفهومين، والمنسيون”.
بيار باردان هو أول المنسيين، وهو أول من شغل المقعد الذي لم يستقر فيه طويلا إذ مات غرقا في نهر السين بعد مرور أربعة عشر شهرا فقط، فكان “أول خالد يموت”. وكان باردان سيء الحظ إذ جاء جيله بين موجتين عاليتين من موجات الأدب الفرنسي، الأولى بقي منها رابليه ومونتين وغيرهما، والثانية ضمت راسين وموليير ولافونتين وكورناي، وبين الموجتين طوي جيل بأكمله في غياهب النسيان، لذلك لا يعرف باردان الآن إلا من تخصص في آداب القرن السابع عشر، ولم يبق من ذكر له إلا حادثة غرقه، وخلاصتها أنه كان أستاذا للماركيز دوميير في صباه، ولفرط حبه له لم يكن يفارقه، ويرافقه إلى أي مكان يقصده، وقد رافقه مرة إلى نهر السين، فلما عن للماركيز أن يسبح في النهر، وكاد يغرق غامر الأستاذ واندفع لإنقاذ تلميذه، مع أنه لا يجيد السباحة، فقضى غرقا بعد ثمانية أيام فقط من إلقاء كلمته أمام الأكاديمية الفرنسية. وقد خلفه في مقعده الكاهن نيكولا بوربون، وكان سبعينيا، يكتب باللاتينية، فلاقى انتخابه سخرية عدد من أعضاء الأكاديمية، فلما مات قرر الأكاديميون انتخاب شاب خلفا له، هو المحامي فرانسوا هنري سالومون، وكان شابا في الثالثة والعشرين من العمر، لم يكتب شيئا يجعل أعضاء الأكاديمية يفضلونه على كورناي، لكنهم رأوا في عدم إقامة كورناي بباريس انتهاكا للشروط الواجب توافرها في عضو الأكاديمية، مما يعد مؤشرا على مدى تكلس وكهنوتية المؤسسات جميعها، فقد اتخذوا من عدم إقامة كورناي بباريس حجة شكلية يرفضون بها الرجل الذي يكره الكاردينال ريشوليو، كما أنه -وبحسب أحد معاصريه- ارتكب خطيئة كبرى تمثلت في أنه كان شاعرا أفضل من الكاردينال. فكان انتخاب سالومون حدثا مؤسفا في تاريخ الأكاديمية.
فيليب كينو هو رابع الأسلاف، وكان ابنا لخباز يمارس مهنته بالقرب من قصر اللوفر، نجحت مسرحيته الأولى فجلبت له الشهرة وهو في الثامنة عشرة من العمر، وقبل أن يبلغ الثلاثين كانت المسارح قد عرضت من تأليفه خمس عشرة مسرحية، وحضر بعضها لويس الرابع عشر. وبالرغم من ذلك لاقى انتخابه عضوا في الأكاديمية في مارس 1670 رفضا شديدا، فقد رأوه يمثل نوعاً من الأدب الرخيص “يؤثره الجمهور، ولكنه يفتقر إلى قيمة حقيقية”. وتم تهميشه لمدة قرن من الزمان حتى أنصفه فولتير وكتب عنه بإعجاب فأعاد له شهرة انسحبت عنه في حياته.
فرانسوا دو كاليير لم يخلفه فقط في شغل مقعده، بل شاركه المصير ذاته، فقد قيل عن انتخابه في ديسمبر 1688، إنه تم فقط لأنه كان يكيل المديح للويس الرابع عشر، ففقد شهرته لكن بعد قرنين من الزمان استعاد حظوته بفضل كتاب “في أسلوب التفاوض مع الملوك” وقد انتظر صاحبه خمسة عشر عاما قبل أن ينشره، فقد كان يحتاج بعد الانتهاء من تأليف الكتاب إلى موت الملك ليرى الكتاب النور، لكن الكتاب نفسه احتاج إلى قرنين ليجذب الأنظار.
أما من خلفه أندريه هرقل دي فلوري فكان كاردينالا من طراز ريشوليو، قدمه معلوف بأنه ”ذاك الذي كان يهمس في أذن الملك”. فقد كان كاهنا للويس الرابع عشر وعلما للويس الخامس عشر، وقد قيل عنه إنه أراد أن يمنع الفرنسيين من الكلام ومن التفكير لكي يحكمهم بشكل أفضل، وبعد رحيل دي فلوري خلفه في مقعده فولتير الذي تم انتخابه بالإجماع .
يختتم أمين معلوف حكاياته مع سلفه المباشر كلود ليفي ستراوس “ذاك الذي كان يكن محبة للحضارات الهشة”، ودخل إلى الأكاديمية الفرنسية في عام 1974، مؤكداً في خطابه الأول على قيمة حضارات المنسيين، فيستغرق العشر دقائق الأولى من كلمته في عقد مقارنة بين حفل الأكاديمية الفرنسية، والطقوس التي كان يمارسها الهنود الحمر، ويخلص في نهاية المقارنة إلى أن التشابه بين الطقوس يعلل وجود الحضارات الحالية. من غير المقبول لأي حضارة أن تسحق أخرى، حيث “لا تستحق أي حضارة –أي مجتمع، أية قصة، أية لغة، أي فن– أن تندثر، لا على ضفاف نهر الأمازون، ولا على ضفاف نهر السين”.
وفي نهاية الكتاب، يشير أمين معلوف إلى أن ستراوس ظل يدافع عن نظريته بأنه لا يحق لأي كان أن يعتبر حضارته أرقى من الحضارات الأخرى، وأن الإنسانية ليست في حاجة إلى ثقافة واحدة، بل إلى عدة ثقافات تعكس تنوع الشعوب، وقدرتها على الابتكار.
العرب